أبحاث ومؤلفات / أبحاث / شرح كتاب المناسك من زاد المستقنع

شرح كتاب المناسك من زاد المستقنع

تاريخ النشر : 1 ذو الحجة 1439 هـ - الموافق 13 اغسطس 2018 م | المشاهدات : 3550
مشاركة هذه المادة ×
"شرح كتاب المناسك من زاد المستقنع"

مشاركة لوسائل التواصل الاجتماعي

نسخ الرابط

 

 

شرح

كتاب المناسك

من

زاد المستـــقنع

 

للإمام الشيخ

موسى بن أحمد بن موسى بن سالم بن عيسى بن سالم الحجاوي المقدسي

- رحمه الله -

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

شرح فضيلة الشيخ

أ.د. محمد بن عبدالله المحيميد

- حفظه الله -

 


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد.

هذا هو شرح كتاب "المناسك" من كتاب زاد المستقنع في اختصار المقنع للعلامة موسى الحجاوي-رحمه الله-.

ختم كتاب العبادات بهذا الكتاب-رحمه الله- جريًا على المعهود عند الفقهاء في ترتيبهم لكتبهم الفقهية، يرتبونها كما جاء في حديث أركان الإسلام، والحج جاء في آخر العبادات في الأركان، كذلك هنا المصنف-رحمه الله- جعل كتاب الحج ختام كتاب العبادات.

(المتن)

قال المصنف-رحمه الله-: "كتاب المناسك".

 (الشرح)

"المناسك"جمع (منسك)، و(المنسك) مصدر نسك ينسك نُسكًا ونسيكةً، والنسك: الطاعةُ والعبادة وكل ما تُقربَ به إلى الله تعالى، والنسيكة هي الذبيحة، ويأتي "المنسك" بفتح السين وبكسرها (منسَك) و (منسِك) وكلاهما صحيح، ثم غلب هذا اللفظ وأصبح علمًا على الحج خاصةً لكثرة الأعمال والعبادات ولكثرة ما يُذبح فيه من القرابين.

(المتن)

قال-رحمه الله-: "الحج والعمرة واجبان على المسلم الحر المكلف القادر في عمره مرة على الفور فإن زال الرق (والجنون) والصبا في الحج بعرفة وفي العمرة قبل طوافها صح فرضا وفعلهما من الصبي والعبد (نفلا)".

(الشرح)

قال-رحمه الله-: "الحج والعمرة واجبان" بدايةً نعرف الحج ثم العمرة ثم نأتي لبيان الحكم.

"الحج"هو: القصد إلى الشيء المعظم وليس القصد لأي شيء، هكذا في لغة العرب، وأما في الشرع فعرّف بتعاريف كثيرة:-

·    ومنها: قصد بيت الله تعالى بصفة مخصوصة في وقت مخصوص بشرائط مخصوصة.

·     وعرفه بعضهم وقال: هو مقصد مكة لأداء المناسك في وقتٍ مخصوص.

·  ولعل أجمع وأمنع التعاريف إلى حدٍ ما، هو تعريف من قال: هو التعبد لله Uبأداء المناسك على ما جاء في سنة رسول الله r.

وأما "العمرة" فهي في اللغة: الزيارة، وفي الشرع: التعبد لله بالطواف بالإحرام وبالطواف بالبيت وبالصفا والمروة وبالحلق أو التقصير.

قال-رحمه الله-: "واجبان"أي: حكم الحج والعمرة واجبان، والأمر-كما ذكر المصنف- بالنسبة "للحج" هو واجبٌ بإجماع الأمة بل هو ركنٌ من أركان الإسلام، دل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع:-

 قال الله -تبارك وتعالى-:{وَللَّه عَلَى النَّاس حجُّ الْبَيْت مَن اسْتَطَاعَ إلَيْه سَبيلًا}[آل عمران:97].

 وأما في السنة:- ففي أحاديث كثيرة، ومنها الحديث المشهور وهو حديث أركان الإسلام الذي قال فيه النبي r: «بُني الإسلام على خمس» وذكر في آخرها: «وحج بيت الله الحرام لمن استطاع إليه سبيلا»([1]).

وأجمعت الأمة على فرضية الحج إلى البيت الحرام.

والحج فُرض في السنة التاسعة من الهجرة، غير أن النبي rلم يحج إلا في السنة العاشرة، وهذا مما اتفق عليه العلماء.

أما "العمرة" فالحكم فيها يختلف عن الحج، ففي وجوبها خلاف بين العلماء، والمصنف قرر أنها واجبة، وهذا مذهب أكثر العلماء فيرون أنها واجبة، ويستدلون على هذا بقول الله -تبارك وتعالى-: {وَأَتمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ للَّه}[البقرة:196]، لكن يرد على هذا: أن هذه الآية أمرت بالإتمام ولم تأمر بالابتداء أصلًا.

 وهناك فرقٌ بين الأمر بالإتمام وبين الأمر ببدء العبادة من أولها، كمحل اتفاق أن المسلم إذا بدأ – شرع - في الحج أو العمرة فيجب عليه أن يتمهما، لكن هل تجب العمرة ابتداءً أصلًا ؟ هذا هو محل الخلاف، ومما استدل به أصحاب هذا القول القائلين بالوجوب:- حديث عائشة-رضي الله تعالى عنها- أن النبي rسُئل: هل على النساء من جهاد ؟، فقال r: «نعم عليهنّ جهاد لا قتال فيه: الحج والعمرة»([2])، فقالوا: "عليهنّ" إنما تأتي للوجوب، لكن يرد على هذا: أن بعض العلماء تحفّظوا على قوله "والعمرة"، فبعضهم يرى أن هذه اللفظة ليست بثابتة، ولذا لم يخرجها البخاري-رحمه الله-.

والقول الثاني: أن الحج والعمرة مندوبان وليس بواجبين.

وفي المسألة قولٌ ثالث: أن العمرة واجبة على الآفاقيالذي ليس من أهل مكة ولا تشرع للمكي.

 لكن أحوط الأقوال: لعل هو القول الأول، ونقول: إذا كان الإنسان قادرًا ينبغي أن لا يدع العمرة، والحديث يطول في بيان حكم هذه المسألة بشيء من التفصيل.

ثم قال-رحمه الله-: "على المسلم الحر المكلف القادر"، هنا المصنف-رحمه الله- يبين شروط من يجب عليه الحج والعمرة، هذه ذكر المصنف خمسة شروط:- "المسلم الحر المكلف" و "المكلف" المراد به: البالغ العاقل، ثم قال المصنف بعد هذا: "القادر"، فهذه خمسة شروط:-

أولها: الإسلام، وكما مر معنا في أحكام الصيام وما سبق من أحكام: أن العبادة لا تجب على الكافر حال كفره- يعني قبل إسلامه-، ومعنى "أنها لا تجب عليه" بمعنى لو فعلها لا تصح منه، وإذا أسلم لا يؤمر بقضائها، وهذا لا يعني أنه معفيٌ عن المحاسبة عليه يوم القيامة، كما ذكرنا فيما سبق في قول الله تعالى-:{مَا سَلَكَكُمْ في سَقَرَ}،{قَالُوا لَمْ نَكُ منَ الْمُصَلّينَ}[المدثر:42-43]، لكن العبادة لا تصح من الكافر في حال كفره، لقوله-تبارك وتعالى-: {وَقَدمْنَا إلَى مَا عَملُوا منْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا}[الفرقان:23]، فالإسلام شرط صحة للعبادة.

ثم قال-رحمه الله-: "الحر"، فالحر ضده: الرقيق، فالرقيق لا يجب عليه الحج لأن وقته وماله وكل هذا لسيده فهو كالمحبوس عند سيده، فهذا من التخفيف عليه ولا يجب عليه الحج في حال رقه، ولو حج الرقيق في حال رقه فحجه صحيح، لكن هل يجزئ عنه عن حجة الإسلام ؟ أيضا لا يجزئ عنه ذلك عن حجة الإسلام.

 فالشرط بالنسبة للرقيق: شرط وجوبٍ وشرط إجزاء لا شرط صحة، فإذا بلغ الرقيق وقد حج في حال رقه: يجب عليه أن يحج حجةً أخرى، لقول النبي rكما رواه ابن عباس-رضي الله عنهما-: «أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجةٌ أخرى، وأيما عبد حج ثم عتق فعليه حجة أخرى»([3])، وهذا هو الشاهد.

ثم قال-رحمه الله-: "المكلف" والمكلف-كما ذكرنا آنفًا-: هو البالغ العاقل، فغير مكلف هو الصبي والمجنون، «أيما صبيٌ حج ثم بلغ فعليه حجةٌ أخرى»، وإذا حج الصبي في حال صباه فحجه صحيح- وهذا بالاتفاق، فإن امرأةً رفعت إلى النبي rصبيًا فقالت: ألهذا حج ؟ قال: «نعم، ولك أجر»([4])، وهذا محل اتفاق.

 الخلاف في مسألة المجنون، فلو أن ولي المجنون حج بالمجنون: فهل حج المجنون صحيح ؟ الاتفاق لا يجزئ عن حجة الإسلام، لكن هل حجه صحيح ؟ يؤجر عليه مثل الصبي، والمسألة محل خلاف، ولعل أرجح الأقوال فيها: أن حجه مثل حج الصبي وكلاهما يفقد القصد الصحيح.

ثم قال المصنف-رحمه الله- بعد هذا: "القادر"، فمن شروط وجوب الحج: القدرة، ودليل هذا: قوله-تبارك وتعالى-: {وَللَّه عَلَى النَّاس حجُّ الْبَيْت مَن اسْتَطَاعَ إلَيْه سَبيلًا}[آل عمران:97]، فالذي لا يستطيع لا يجب عليه الحج، سيأتي مزيد كلام عن هذه المسألة بعد قليل.

ثم قال المصنف-رحمه الله-: "في عمره مرة"، يعني: من توفرت عنده شروط الحج وجب عليه أن يحج مرةً واحدة في العمر وإن استمرت معه الاستطاعة بعد ذلك، ودليل هذا هو قول النبي r: «الحج مرة، فمن زاد فهو تطوع».([5])، والمسألة محل اتفاق.

ثم قال-رحمه الله-: "على الفور" أي: يجب على من توفرت عنده تلك الشروط أن يبادر في الحج ولا يؤخره، قول الله-تبارك وتعالى-: {وَللَّه عَلَى النَّاس حجُّ الْبَيْت مَن اسْتَطَاعَ إلَيْه سَبيلًا}[آل عمران:97]، وأيضًا لقول النبي r: «أيها الناس، إن الله كتب عليكم الحج فحجوا»([6])، والأصل في الأوامر أن تكون على الفور.

ثم قال-رحمه الله-: "فإن زال الرق (والجنون) والصبا في الحج بعرفة وفي العمرة قبل طوافها صح فرضا"، نحن قلنا فيما سبق: أن الحج صحيح من الصبي وصحيحٌ من الرقيق وصحيحٌ من المجنون، لكن لا يسقط عنهم الفرض الواجب، لكن لو أن هذا الظرف تغير في أثناء الحج، أما إن تغير قبل الإحرام فلا شك حجهما صحيح ومجزئ عن الفرض، لكن لو بدأ أحدٌ من هؤلاء حجه وهو في ظرفه (في حال الصبا أو في حال الرق أو في حال الجنون) وأحرم بتلك الصفة ثم بعد هذا زال هذا الظرف وتوفرت عنده شروط الوجوب: فهل يجزئ هذا الحج ؟

 المصنف يقرر هنا: أنه إن زالت هذه الظروف بعرفة -يعني قدر الإنصراف والإفاضة من عرفة-: فحجه يصح منه فرضًا ويسقط عنه حج الفريضة- وهذا محل اتفاق، دليله: ما روي عن ابن عباس-رضي الله تعالى عنهما-: "أنه أفتى من بلغ وأفاق من الجنون إن أفاق بعرفة صحّ حجه فرضًا"، ومثل هؤلاء الرقيق، لماذا ؟ لأنه أتى بالمناسك وبركن الحج الأعظم على صفة الكمال.

ثم قال-رحمه الله-: "وفي العمرة قبل طوافها صح فرضا"، مثل هذا:- إذا أحرم هؤلاء الثلاثة -الذي ذكرناهم قبل قليل- بالعمرة ثم في أثناء الطريق زال ظرفه المانع من إجزاء الحج عنه فرضًا وزال في أثناء الطريق، فننظر: إن زال-كما ذكر المنصف- قبل الطواف: فهذه العمرة تجزئ عن عمرة الإسلام، وإن لم يزل هذا الظرف إلا بعد أن شرع في الطواف: فعليه أن يعتمر عمرةً أخرى لعمرة الإسلام، لماذا ؟ لأن ركن العمرة الأعظم هو الطواف، ومثله مثل الوقوف بعرفة بالنسبة للحج.

ثم قال-رحمه الله-: "وفعلهما من الصبي والعبد (نفلا)"، كما ذكرنا آنفًا: يصحان من الصبي ويصحان من الرقيق، ومثلهما-أيضًا- المجنون لكن نفلًا وليس فريضةً.

-       مسائل تتعلق بالصبي:

 الصبي إما أن يكون مميز وإما أن يكون غير مميز لا يعرف شيئًا، فإن كان مميزًا فهو ينوي العبادة بنفسه، وإن كان غير مميز فالذي ينوي عنه وليه، وهذا لا إشكال فيه، لكن فيه مسائل تكثر في هذا وهي مسألة: إذا كان الصبي الصغير لا يستطيع أن يطوف بنفسه ولا بد أن يُحمل: فهل الطواف عن حامله أو عن المحمول أو عنهما جميعًا ؟ بمعنى: الحامل إذا كان عليه عمرة مثلًا أو حج فيطوف أولًا لنفسه ثم يطوف لهذا الصبي أو يجزأهما طواف واحد ؟

المسألة محل خلاف، أرجح أقوال العلماء في هذا: أن الطواف مرةً واحدة يجزئ عن الحامل والمحمول، يعني يجزئ عن الصبي وعن من يحمل الصبي ولا يلزم أن يكرر الطواف به مرةً أخرى.

ومثل هذه المسألة مسألة: المحمول يشترط في الطائف أن يكون البيت عن يساره، فإذا حمل الطفل ونحوه سيكون البيت عن يمينه، فهل يجزئ هذا أو لا يجزئ؟

 المسألة محل خلاف، لكن الراجح فيها: أنه لا بأس أن يكون البيت عن يسار أو عن يمين المحمول ولا يلزم أن يكون عن يساره، لأن النبي rسكت عن هذه المسائل لما رفعت له المرأة الصبي وقالت: ألهذا حج ؟ قال: «نعم، ولك أجر»، لم يفصل النبي rولم يقل طوفي مرةً عن نفسك ثم احملي الطفل به ولم يقل ضعيه بوضعية معينة، فكست عن هذه الأمور، وسكوته rيدل على أن الأمر فيه سعةٌ-إن شاء الله-، فلا يُضيق على الناس بهذا.

ثم قال-رحمه الله-: "والعبد" يعني: يصح حج العبد وعمرته.

(المتن)

قال-رحمه الله-: "والقادر: (من أمكنه الركوب) ووجد زادا ومركوبا صالحين لمثله بعد قضاء الواجبات والنفقات الشرعية والحوائج الأصلية، وإن أعجزه كبر أو مرض لا يرجى برؤه لزمه أن يقيم من يحج ويعتمر عنه من حيث وجبا ويجزئ عنه وإن عوفي (بعد الإحرام)".

(الشرح)

قال-رحمه الله-: "والقادر: (من أمكنه الركوب) ووجد زادا ومركوبا صالحين لمثله"، أحيانًا يحتاج الحاج إلى ركوب وأحيانًا لا يحتاج كما لو كان من أهل مكة، فلا يرد مثل هذا القيد، لكن إذا كان يحتاج إلى ركوب فلا بد أن يكون قادرا على الركوبة وقادرا على الاستقرار على الراحلة أو السيارة ولا يحصل له مشقة شديدة أو ضرر، إن كان الأمر كما ذكرت فتوفر عنده شيء من هذا الشرط الباقي والذي له بقية بعد قليل.

قال: "(من أمكنه الركوب) ووجد زادًا و مركوبا"، فسّر النبي rالاستطاعة بذلك كما جاء في بعض الأحاديث في تفسير قوله تعالى:{مَن اسْتَطَاعَ إلَيْه سَبيلًا}[آل عمران:97]، قال r: «السبيل: الزاد والراحلة»([7])، والمقصود بـ "الزاد" أن يكون معه مما يحتاجه من طعامٍ وشراب إلى حين عودته، وأيضا: أن تكون معه راحلة تقلّه إلى مكة، فبناءً على هذا: من لم يجد زادًا ولا راحلة لا يجب عليه أن يحج، أو وجد مثلًا لكن شقّ عليه الركوب: فلا يجب عليه الحج.

ثم قال المصنف-: "صالحين لمثله" يعني: يجب أن تكون الراحلة صالحة لمثله والزاد كذلك، يعني: لائقين بحاله، فإن كان غنيًا فمركوب الأغنياء وإن كان فقيرًا فمركوب الفقراء، لكن-والله أعلم- أن هذا ليس بشرط، فالمقصود: إذا وجد من الزاد ما يقيم حاله ووجد من الراحلة ما يحمله -ولو كان في ذلك بعض الكلفة ولا يشق عليه-: فيجب عليه الحج.

ثم قال المصنف-رحمه الله-: "بعد قضاء الواجبات" يعني أن الشرط يتحقق إذا وجد  المال والزاد والراحلة بعد قضاء ما عليه من الواجبات كالديون الحالة والمؤجلة للآدميين أو لله وغيرها، كذلك بعد "النفقات الشرعية" يعني: يكون هذا المال الذي معه ليحج به زائدًا عن حاجته للإنفاق على أهل بيته ومن تلزمه نفقتهم، فقد جاء في الحديث: «كفى بالمرء إثمًا أن يُضيع من يقوت»([8])فإذا كان عنده من المال زائدًا عن هذه الأشياء فهنا يجب عليه الحج، أما إن كان المال لا يكفي إلا لهذه الأشياء اللازمة فهي أولى من الحج- وهذا من سماحة هذا الدين.

قال المصنف: "والحوائج الأصلية" أيضًا يكون هذا المال الذي يعده للحج زائدًا عن الحوائج الأصلية كالمسكن والملبس والمركب وغير ذلك، لكن ينبغي عدم المبالغة في هذا، فلا يصح للإنسان أن يمتلك مسكنًا أو مركبًا زائدًا عن حاجته كثيرًا ثم يعتذر بأنه لا يجد ما يستطيع أن يحج به، فهذا لا شك أن مفرّط وآثم.

ثم قال المصنف-رحمه الله-: "وإن أعجزه كبر أو مرض لا يرجى برؤه لزمه أن يقيم من يحج ويعتمر عنه من حيث وجبا" هذا الشخص يدور بين أمور، فإما أن يستطيع أن يحج بنفسه وماله: فهذا يلزمه الحج ببدنه، وأحيانًا يستطيع بماله ولا يستطيع بنفسه: فهذا يلزمه أن ينيب من يحج عنه، أما إن كان لا يستطيع لا بنفسه ولا بماله: فيسقط عنه الحج في هذه الحالة.

لكن مسألتنا هذه: إذا كان لا يستطيع أن يحج ببدنه لكبرٍ أو مرضٍ لا يرجى برؤه:- فهنا يقول المصنف: يلزمه أن يُقيم من يحج ويعتمر عنه من حيث وجبا، يعني مثلًا: لو كان بلده-مثلًا- في مصر: هنا وجب عليه الحج من مصر، فيقول: لا يصح أن يُنيب أحدًا من أهل مكة والمدينة يحج عنه، بل لا بد أن يكون النائب من بلده هو، لكن أرجح أقوال العلماء هنا: أنه لا بأس أن ينيب من أهل مكة، لأن السفر هنا ليس مقصودًا.

 ودليل صحة الإنابة في الحج: ما ثبت في الصحيح: أن امرأةً سألت النبي rفقالت: إن فريضة الله أدركت أبي شيخًا كبيرا لا يستطيع الثبوت على الراحلة، أفأحج عنه ؟ قال r: «حجي عنه»([9])وهذا دليلٌ واضح، وأيضًا فيه دلالة على أنه يجوز أن تنوب المرأة عن الرجل والعكس كذلك، فإذا جاز للمرأة أن تنوب عن الرجل فمن باب أولى ينوب الرجل عن المرأة في الحج.

ثم قال-رحمه الله-: " ويجزئ عنه وإن عوفي (بعد الإحرام)" يعني: لو أن النائب أحرم بالحج عن المنوب عنه: فهذا مجزي، ولو عوفي المنوب عنه بعد إحرام هذا النائب: فالحج هذا مجزئ، ولا نقول لهذا الذي أناب غيره يلزمك أن تحج حجةً أخرى، وهذا مجزئ عنه، ومفهوم هذا: أنه إذا عوفي قبل أن يُحرم النائب عنه: فتكون تلك الحجة التي من النائب نافلة ويلزم هذا المنوب عنه أن يحج حجةً أخرى.

(المتن)

قال-رحمه الله- : "ويشترط لوجوبه على المرأة وجود محرمها وهو زوجها أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح وإن مات من لزماه أخرجا من تركته".

(الشرح)

قال-رحمه الله-: " ويشترط لوجوبه على المرأة وجود محرمها" هذا شرطٌ خاصٌ بالمرأة، فلا يجب الحج على المرأة إلا إذا توفر لها محرم، لما روي:- أن رجلًا لما سمع النبي rيقول: «لا يحل لامرأةٍ تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر إلا مع ذي محرم» قال رجلٌ: يا رسول الله، إن امرأتي انطلقت حاجة وقد اكتتبت في غزوة كذا وكذا، فقال النبي r: «انطلق فحج مع امرأتك»([10])، فهذا الحديث دليل على وجوب المحرم بالنسبة للمرأة.

 فالمرأة التي ليس عندها محرم لا يجوز لها أن تحج وإن حجت فهي آثمة، لكن حجها بغير محرم صحيح، وفي المسألة خلاف (في وجوب المحرم)، لكن الراجح ما ذكرت: أنه لا بد من المحرم بنص الحديث السابق، فالنبي rأمر هذا الرجل بأن يترك الجهاد وينطلق ويكون محرمًا لامرأته، قال المصنف: فإن سافرت بلا محرمٍ وحجت فهي آثمة، والحج صحيح -كما ذكرنا-.

ثم قال-رحمه الله- مبينًا المحرم: "وهو زوجها أو من تحرم عليه على التأبيد بنسب أو سبب مباح" الأحرام ثلاثة أنواع:-

النوع الأول: الزوج.

النوع الثاني: من يحرم عليها على التأبيد بنسب.

النوع الثالث: من يحرم عليها على التأبيد بسببٍ مباح.

فالذي يحرم على التأبيد بنسب: هم الأب والابن والأخ وابن الأخ وابن الأخت والخال والعم، هؤلاء سبعة.

والثالث : من يحرم على التأبيد بسببٍ مباح، والسبب المباح قسمان: الرضاع والمصاهرة:-

·   فالذين يرحمون بالرضاع هم نفس الذي يحرمون بالنسب (يعني السبعة السابقون)، لقول النبي r: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب»([11]).

·  أما الذين يحرمون بالمصاهرة: فهم أربعة: أبو الزوج وابن الزوج وزوج الأم وزوج البنت، فهؤلاء الأربعة-أيضًا- يجوز للمرأة أن تحج معهم.

وعُلم من قول المصنف-رحمه الله-: "بنسبٍ أو سببٍ مباح" أن السبب المحرم لا يجوز معه السفر ولا يعتبر محرما، السبب المحرم كالزنى، فأم المزني بها وابنة المزني بها لا يعتبر الزاني محرمًا لهما ولا يجوز لهما أن تسافرا معه، وكذا من قول المصنف-رحمه الله-: "من تحرم عليه على التأبيد" أن مَنْ تحرم عليه المرأة (لكن ليس على التأبيد) أنه ليس بمحرم، مثل زوج أختها فهذا ليس محرمًا لها، لأنه ربما طلق الأخت أو ماتت الأخت، وجاز له أن يتزوجها.

ثم قال المصنف-رحمه الله-: "وإن مات من لزماه أخرجا من تركته" يعني: من توفرت عنده شروط الحج ولم يحج تهاونًا أو كسلًا أو غير ذلك، يقول المصنف: "أخرجا من تركته" يعني: يجب على أهله قبل قسم التركة أن يخرجا ما لم يحج به عنه قبل قسمة تركته، يعني مثل سائر الديون، فهذا حقٌ لله-تبارك وتعالى-، والنبي rيقول: «دينُ الله أحق بالوفاء»([12]).

(المتن)

قال المصنف-رحمه الله- : "باب المواقيت"

(الشرح)

"المواقيت"جمع: ميقات، والميقات هو: الحد، ومواقيت الحج قسمان:- مواقيت زمانية ومواقيت مكانية.

(المتن)

قال-رحمه الله-: " وميقات أهل المدينة ذو الحليفة وأهل الشام ومصر والمغرب الجحفة وأهل اليمن يلملم وأهل نجد قرن وأهل المشرق ذات عرق وهي لأهلها ولمن مر عليها من غيرهم ومن حج من أهل مكة فمنها وعمرته من الحل".

(الشرح)

قال-رحمه الله- مبينًا المواقيت المكانية: "وميقات أهل المدينة ذو الحليفة" وهو قريبًا من المدينة، وهو أبعد المواقيت عن مكة، ثم قال-رحمه الله-: "وأهل الشام ومصر والمغرب الجحفة" وهي قريةٌ قريبةٌ ومعروفة، ثم قال-رحمه الله-: " وأهل اليمن يلملم" وهذا على طريق اليمن عند بئر يسمى السعدية يُحرم منه الناس، وهو يبعد عن مكة تقريبًا 120 كيلو على طريق الليث.

ثم قال-رحمه الله-: "وأهل نجد قرن" والقرن هو: الجبل الصغير، وهو جبلٌ بوادٍ يسمى وادي السيل الكبير، وهو أقرب المواقيت إلى مكة، ثم قال-رحمه الله-: "وأهل المشرق ذات عرق" أهل المشرق الذين يأتون من جهة العراق يحرمون من ذات عرق.

 وهذه المواقيت وقّتها النبي r- كما جاء في الصحيحين عن ابن عباس-رضي الله تعالى عنهما-: وَقَّتَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللهُ عَلَيْه وَسَلَّمَ لأَهْل المَدينَة ذَا الحُلَيْفَة، وَلأَهْل الشَّأْم الجُحْفَةَ، وَلأَهْل نَجْدٍ قَرْنَ المَنَازل، وَلأَهْل اليَمَن يَلَمْلَمَ... فَهُنَّ لَهُنَّ، وَلمَنْ أَتَى عَلَيْهنَّ منْ غَيْر أَهْلهنَّ لمَنْ كَانَ يُريدُ الحَجَّ وَالعُمْرَةَ، فَمَنْ كَانَ دُونَهُنَّ، فَمُهَلُّهُ منْ أَهْله، وَكَذَاكَ حَتَّى أَهْلُ مَكَّةَ يُهلُّونَ منْهَا»([13]).

بقي ميقات ذات عرق، فلم يرد بهذا الحديث، ولذا اختلف العلماء: هل الذي وقّته النبي rأو عمر t؟ أرجح الأقوال: أن الذي وقّته عمر tثم أجمعت الأمة عليه، عن ابن عمر-رضي الله عنهما- قال: "لما فتح هذان المصران أتوا عمرَ، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن رسول الله rحدّ لأهل نجدٍ قرنا وهو جورٌ عن طريقنا"أي: مائل عن طريقنا "وإن أردنا قرنًا شقّ علينا" فقال عمر t: "فانظروا حذوها من طريقكم، فحدّ لهم ذات عرق"([14]).

ثم قال-رحمه الله-: "وهي لأهلها ولمن مر عليها من غيرهم" فمثلًا: الذي يأتي من جهة ذي الحليفة سواءً كان من أهل المدينة أو من غير أهل المدينة: يجب عليه أن يُحرم من ذي الحليفة، وهل يجوز للمسلم أن يحرم قبل المواقيت ؟ هذا جائز لكنه خلاف الأولى، فعله بعض الصحابة-رضي الله تعالى عنهم-.

 وإذا كان في الطريق إلى مكة ميقاتان:- مثل الشامي إذا مرّ بالمدينة أو المصري: هل يلزم أن يحرم من المدينة أو يجوز أن يؤجل إحرامه إلى الجحفة ؟ المسألة محل خلاف، ولعل الراجح فيها: أنه يجوز له أن يؤجل إحرامه ليحرم من الجحفة.

بقي مسألة وهي: حكم تجاوز الميقات بدون إحرام لمن أراد الحج والعمرة ؟

أجمع العلماء-رحمهم الله- على: أنه لا يجوز لمن أراد الحج والعمرة أن يتجاوز الميقات بلا إحرام، فإن تجاوزه عامدًا فهو آثم، وإن كان جاهلًا فيلزمه أن يرجع ويحرم من الميقات، فإن رجع وأحرم من الميقات فلا شيء عليه، وإن أحرم من مكانه لزمه دم حتى وإن رجع.

ثم قال-رحمه الله-: "ومن حج من أهل مكة فمنها" أهل مكة ومن دون المواقيت يحرمون من أماكنهم ولا يلزمهم أن يرجعوا إلى هذه المواقيت، فالذين يسكنون مثلًا بين مكة والمدينة أو بين السيل وبين مكة: يحرمون من أماكنهم، حتى أهل مكة يحرمون من مكة، وهذا بالنسبة للحج.

 أما أهل مكة بالنسبة للعمرة فيلزمهم أن يخرجوا إلى الحل وإلى التنعيم أو غيره، يعني: أي مكان من الحل خارج الحرم، لأن المعهود عن الشارع أن الإحرام لا بد أن يجمع فيه المتعبد بين الحل والحرم، وأيضًا «النبي rأمر عائشة حين طلبت منه أن تعتمر بعد أن فرغت من حجها، فأمر أن تخرج لتُحرم من التنعيم»([15]).

 (المتن)

قال-رحمه الله-: "وأشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة".

(الشرح)

قال-رحمه الله-: "وأشهر الحج: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة" هذه أشهر الحج، وهو كذا عند الحنابلة: شهران وبعض شهرٍ، وفي المسألة قولٌ ثان : أن أشهر الحج ثلاثة أشهر وهي( شوال وذو القعدة وذو الحجة بأكمله)، والقول الثاني لعله هو الراجح، لأن الله- تبارك وتعالى-قال: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}[البقرة:197]، ولم يقل شهران أو بعض شهر، وأيضًا: عن عمر t: أن ذا الحجة كله من أشهر الحج.

بقي مسألة وهي: حكم الإحرام بالحج قبل ميقاته الزمنيّ ؟ يعني: هل للمسلم أن يحرم بالحج-مثلًا- في رمضان ؟

المسألة محل خلاف، عند الحنابلة: هذا جائز، لكن جمهور العلماء وعلماء المذاهب الثلاثة-رحمهم الله- رأوا عدم جواز ذلك، وهذا هو الصحيح وأعني: عدم الجواز، فما أودع هذا التوقيت إلا ليلتزم به، وأيضًا لم يؤثر عن أحد من الصحابة ولا غيرهم أنه أحرم بالحج قبل زمانه، فمن أحرم به قبل زمانه يقلبها إلى عمرة، يعني من أحرم بالحج قبل دخول أشهر الحج وقبل رؤية هلال شوال: فعليه أن يقلب هذا الإحرام إلى عمرة.

(المتن)

قال-رحمه الله-: باب "الإحرام: نية النسك".

(الشرح)

"الإحرام"في اللغة: نية الدخول في التحريم، وفي الاصطلاح: نية الدخول في النسك، يعني ليس الإحرام أن يلبس الإنسان الإزار والرداء فهذا لا يسمى إحرامًا، الإحرام هو أن ينوي أنه دخل في هذه العبادة العظيمة وهي الحج أو العمرة.

(المتن)

قال-رحمه الله-: "سن لمريده: غسل (أو تيمم لعدم) وتنظف وتطيب وتجرد عن مخيط ويحرم في إزار ورداء أبيضين وإحرام عقب ركعتين ونيته شرط ويستحب قوله: اللهم إني أريد نسك كذا فيسره لي وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني".

(الشرح)

قال المصنف-رحمه الله-: " سن لمريده"، المصنف يريد أن يذكر السنن المتعلقة بالإحرام، قال: "غسل" هذه أول السنن، فينبغي لمن أراد أن يحرم بحجٍ أو عمرة أن يغتسل أيًا كان سواء رجلًا أو امرأةً وسواءً كانت المرأة حائضا أو نفساء أو طاهرة، فعلى أي حال- يسن لمن أراد أن يحرم- يسنُّ له أن يغتسل، ودليل هذا: حديث أسماء-رضي الله تعالى عنها-: «أن النبي rأمرها أن تغتسل حين أرادت الإحرام وهي نفساء»([16]).

ثم قال-رحمه الله-: "سن لمريده غسلٌ (أو تيمم لعدم)" أي: لعدم غسل أو إمكان غسلٍ لعدم ماءٍ أو عدم قدرةٍ على الغسل، فالمصنف يرى مشروعية التيمم كبديل عن الغسل في سنن الإحرام، هذ رأي المصنف وهو قول للحنابلة، لكن في المسألة قولٌ آخر ولعله هو الراجح: أن التيمم لا يشرع في مثل هذه الحالة، وكذلك سائر الأغسال المستحبة لا يُشرع لها التيمم، التيمم إنما يرفع فقط لإباحة العبادة من صلاةٍ ونحوها.

ثم قال المصنف-: "وتنظف" وهذا أمرٌ زائد عن الاغتسال، ويريد العلماء بقولهم" التنظف": تقليم الأظافر وحلق العانة ونتف الإبط ونحوها، كثير من الناس يربط هذه الأشياء بالإحرام، ربما يكون حديث عهد بإزالة هذه الأشياء ثم يتقصّد إزالتها عند الإحرام، وهذا ليس عليه دليل لم يثبت هذا عن أحد- أعني إن تقصّد هذا الأمر-، لكن في الجملة ينبغي للمسلم أن يكون على هيئة طيبة إذا أراد أن يذهب إلى المسجد وبالذات وهو في طريقه إلى المسجد الحرام.

 الله تعالى يقول: {يَا بَني آدَمَ خُذُوا زينَتَكُمْ عنْدَ كُلّ مَسْجدٍ}[الأعراف:31]، فينبغي للإنسان أن يكون على أحسن هيئة، فإن كانت هذه الأشياء موجودة فينبغي أن يزيلها لهذا القصد، أما إن كان قد أزالها قريبًا فلا داعي لتكرار إزالتها.

ثم قال-رحمه الله-: "وتطيبٌ" يعني: يستحب لمن أراد أن يحرم أن يتطيب، والمراد هنا: التطيب في البدن دون الملابس، وقد كان من هديه rفعل ذلك، فعن عائشة-رضي الله تعالى عنها- قالت: «كنتُ أُطيب رسول الله rلإحرامه قبل أن يُحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت»([17]).

ثم قال-رحمه الله-: "وتجردٌ عن مخيط" هذا بالنسبة للرجل، فيجب عليه ابتداءً أن يتجرد عن المخيط، المصنف جعله من السنن، مراده من الإحرام سنة، لكنه بعد الإحرام يجب عليه أن يخلعه، الواقع أنه واجب، لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فيجب على الحاج قبل أن يحرم أو أن يدخل في نية النسك أن يتجرد من المخيط.

 والمقصود بـ "المخيط" هو كل لباسٍ مفصلٍ على قدر الجسم أو على قدر عضو منه، وليس المقصود بالمخيط ما وجد فيه خياطة، فقد يكون الإزار قطعتان وخيطا وأصبح قطعةً واحدة- فهذا لا بأس به، أو كان الحزام الذي يوضع فيه الأشياء فيه خياطة والحذاء فيه خياطة- هذا لا يؤثر، المقصود بـ "المخيط" حين يقول العلماء: "المخيط مقسوم مفصّل على البدن" كالثوب مثلًا "أو على عضو منه" مثل الفانيلة أو السراويل أو نحو ذلك.

ثم قال-رحمه الله-: "ويحرم في إزار ورداء" يسن للمحرم أو لمن أ راد الإحرام أن يلبس إزارًا ورداءً، فقد أمر النبي rبذلك وصنعه، قال r: «ليحرم أحدكم في إزارٍ ورداء ونعلين»([18])، ثم قال-رحمه الله-: "أبيضين" يستحب في الإزار والرداء أن يكونا أبيضين- وهذا يستحب، لكن لو أحرم الحاج بغير الأبيض -كالأخضر ونحوه- فلا بأس بهذا، لكن إذا كان أحمرًا كاملًا فلا يصح، لأنه ليس للرجل أن يلبس اللباس الأحمر، أما المرأة فالأمر في هذا واسع.

والدليل على استحباب الأبيض دون غيره:- قول النبي r: «الْبَسُوا منْ ثيَابكُمُ الْبَيَاضَ فَإنَّهَا منْ خَيْر ثيَابكُمْ، وَكَفّنُوا فيهَا مَوْتَاكُمْ»([19])، و أيضًا قوله r: «الْبَسُوا منْ ثيَابكُمُ الْبَيَاضَ فَإنَّهَا أَطْهَرُ وَأَطْيَبُ وَكَفّنُوا فيهَا مَوْتَاكُمْ »([20]).

ثم قال-رحمه الله-: "وإحرام عقب ركعتين" يسن للمسلم -إذا أراد أن يحرم إذا لم يوافق صلاةً مفروضة- أن يصلي ركعتين ثم يحرم بعدهما، هذ ما يراه المصنف-رحمه الله- وهو مذهب جمهور العلماء الأئمة الأربعة-رحمهم الله تعالى-، وفي المسألة قولٌ آخر فقالوا: ليس هذا مشروعًا، والمسألة الخلاف فيها كبير، ومن قال بمشروعية هاتين الركعتين استدل بما روي عن النبي rفيما يرويه عن ربه -جل وعلا- أنه قال: «صل في هذا الواد المبارك وقل عمرة في حجة»([21])، وثبت أن النبي rأحرم بعد أن صلى الظهر فالأمر في هذا واسع.

ثم قال -رحمه الله-:"ونيته شرط"، يعني لا يكفي أن الإنسان يتجرد من الملابس ويلبس الإزار والرداء ثم بعد هذا يصير محرما لا يكفي هذا بل لابد أن ينوي الدخول في الإحرام لقول النبي r: «إنما الأعمال بالنيات»، وهل يشترط أن يلبي عن نية أو أن يسوق الهدي ؟ قال بذلك بعض العلماء، لكن الراجح: أن ذلك ليس بشرط، فيكفي إذا نوى الدخول في النسك- لما ذكرنا في الحديث السابق.

قال المصنف بعد هذا: " ويستحب قوله: اللهم إني أريد نسك كذا فيسره لي وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني"، يعني: اللهم إني أريد نسك-مثلًا- التمتع أو الإفراد، "فيسره لي وإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني" في هذه العبارة مسألتان:-

المسألة الأولى: الجهر بالنية، هل يُشرع لمن أراد أن يحرم أن يتلفظ بنيته ويقول: أريد النسك الفلاني ؟

 المعهود عند الحنابلة وهو مذهب جمهور العلماء: أن الجهر بالنية غير مشروع، لكنهم في هذه المسألة بالذات نصّوا على سنية ذلك، ولا شك أن هذا القول بـ (سنية الجهر بالنية) هذا ليس عليه دليلٌ صريح، حيث لم يؤثر عن النبي rولا عن أحدٍ من أصحابه-رضي الله تعالى عنهم-، فنقول: تكفي النية ولا داعي أن يقول: إني أريد نسك كذا وكذا.

المسألة الثانية في قوله "فإن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني" وهذا ما يسميه العلماء بالاشتراط:- فهل يُشرع لمن أراد أن يحرم أن يشترط ؟

 والمراد بـ "الاشتراط" بحيث إذا حصل عائق لهذا الحاج يمنعه من إتمامه نسكه أن يتحلل وليس عليه شيء، لو حُصر ونحو ذلك- قالوا: يخلع إحرامه ويرجع إلى بلده وليس عليه شيء إن كان قد اشترط، وإن لم يشترط فستأتي أحكام المحصر ومنها: أن عليه هدي، فهذا الاشتراط لتنافي الهدي أو أي التزامات أخرى-كما ستأتي إن شاء الله-.

على أي حال: هذا الاشتراط عند الإحرام مشروع، ودليله: حديث عائشة-رضي الله تعالى عنها- قالت: «دَخَلَ النَّبيُّ صَلَّى الله عَلَيْه وَسَلَّمَ عَلَىَ ضُبَاعَةَ بنْت الزُّبَيْر ابْن عَبْد الْمُطَّلب، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ الله إنّي أُريدُ الْحَجَّ، وَأَنَا شَاكيَةٌ (يعني: مريضة)، فقال النبي r: «حُجّي وَاشْتَرطي أَنَّ مَحلّي حَيْثُ حَبَسْتَني»([22])، فهذا لا شك دليلٌ على مشروعية الاشتراط عند الإحرام وأن الاشتراط فيه فائدة ومصلحة.

 لكن الخلاف: هل الاشتراط مشروعٌ لكل من أراد الإحرام أو لفئة معينة؟ الثابت: أن النبي rوأصحابه –رضي الله تعالى عنهم- لم يشترطوا، لم يروى أنه اشترط إلا أسماء-رضي الله تعالى عنها-، بعض العلماء يقول: يُشرع لكل أحد أن يشترط، وبعضهم قال-ولعل هؤلاء لم يبلغهم الحديث- فقالوا: يُشرع لمن خشي على نسكه لظرف من الظروف- ولعل هذا القول هو الراجح.

 فإذا كانت الأمور طيبة والأحوال مستقيمة فينبغي للإنسان أن يتأسّى بالنبي rولا يشترط ويتوكل على الله، وإن كان يخشى من مرضٍ أو حبسٍ أو غير ذلك أو عائق: فهنا يُشرع له الاشتراط أخذًا بذلك الحديث.

(المتن)

قال-رحمه الله-: "وأفضل الأنساك: التمتع وصفته: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها ثم يحرم بالحج في عامه وعلى الأفقي دم وإن حاضت المرأة فخشيت فوات الحج أحرمت به وصارت قارنة".

(الشرح)

ثم قال المصنف بعد هذا: "وأفضل الأنساك: التمتع"، للحج ثلاثة أنساك: التمتع والقران والإفراد، وسنذكر-إن شاء الله- صفتها وصفاتها بعد قليل، المصنف هنا يقول: "أفضل الأنساك" كلام المصنف يدل على أن الأمر مهم جدًا وهو: أن المسألة على التفضيل وليست على الترتيب أو على الإلزام.

 فلمن أراد الحج أن يأخذ بأي نسكٍ شاء، وهذا هو الراجح، بل هو الذي عليه جمهور العلماء لقول عائشة-رضي الله تعالى عنها- وغيرها من الصحابة قالت: «خرجنا مع رسول الله rفمنا من أهلّ بعمرةً ومنا من أهلّ بعمرةً وحج، وأهلّ رسول الله rبحج»([23])فهؤلاء الصحابة-رضي الله تعالى عنهم منهم المتمتع ومنهم القارن ومنهم المفرد.

قال المصنف-رحمه الله- بعد هذا: "وأفضل الأنساك: التمتع" المصنف يرجح أن الأفضل هو التمتع، هي-كما ذكرنا- ثلاثة أنساك، لماذا المصنف نصّ على التمتع أنه أفضل من غيره مع أن النبي rحجّ قارنًا ؟ الخلاف في المسألة كبير وقوي جدًا:-

 فالذين قالوا بـأن (الأفضل: التمتع) قالوا ذلك: لأن النبي rأمر من لم يسق الهدي من أصحابه ممن كان قارنا أن يتمتع، يعني: أن يحل من عمرته ثم يحرم في اليوم الثامن، كما ثبت ذلك في حديث جابر وغيره-رضي الله تعالى عنهم-([24]).

·    بعض العلماء قالوا: (الأفضل: القران) لأن النبي rحجّ قارنا.

·  بعضهم قال: الأفضل هو: الإفراد، لأن مأثور عن أبي بكر وعمر-رضي الله عنهما- أنهم كانوا يحجون مفردين بالحج.

المسألة الخلاف فيها قوي، ولعل أرجح الأقوال: هو القول بـ "التمتع هو الأفضل" لأنه أكثر الأنساك عملًا وفيها –أيضًا- هدي، فالذي لم يسق الهدي من بلده فهذا الأفضل له أن يتمتع لما ذكرنا وأكثرها عملًا، وهو الذي أمر به النبي rأصحابه وأيضًا قال قولته المشهورة: «لَوْ اسْتَقْبَلْت منْ أَمْري مَا اسْتَدْبَرْت ، مَا سُقْت الْهَدْيَ ولجعلتها عمرة»([25])يعني: ولا تمتعت معكم، فتأسف النبي rأنه لم يصنع هذا.

ثم قال-رحمه الله- مبينًا صفة التمتع: "وصفته: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويفرغ منها ثم يحرم بالحج في عامه" لا يكون الإنسان متمتعًا إلا إذا توفرت في حجه وعمرته ثلاثة شروط:-

الشرط الأول: أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج، مر معنا أشهر الحج تبدأ من بداية شوال، فتكون عمرته في شوال، فإن أحرم بالعمرة في رمضان فلا يكون متمتعًا.

الشرط الثاني: أن يفرغ منها، يعني يتحلل من عمرته فيطوف ويسعى ويقصّر.

الشرط الثالث: ثم يحرم بالحج بعد هذا في نفس السنة، وهذا هو الشرط الثالث: أن يحرم بالحج في عامه، فلو اعتمر في أشهر الحج في سنة ثم حج في سنة أخرى: فذا ليس متمتعًا، لا بد أن تكون عمرته وحجه في سنة واحدة وأن تكون العمرة في أشهر الحج وليس قبل ذلك، وأيضًا لا بد أن يحل من عمرته.

ثم قال المصنف بعد هذا: "وعلى الأفقي دم" المراد بالأفقي: هو الذي ليس من حاضر المسجد الحرام، فالمتمتع يلزمه هدي- بنص القرآن، قال تعالي: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بالْعُمْرَة إلَى الْحَجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ منَ الْهَدْي فَمَنْ لَمْ يَجدْ فَصيَامُ ثَلاثَة أَيَّامٍ في الْحَجّ وَسَبْعَةٍ إذَا رَجَعْتُمْ تلْكَ عَشَرَةٌ كَاملَةٌ ذَلكَ لمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضري الْمَسْجد الْحَرَام}[البقرة:196]، استثنى الله -جلا وعلا- حاضري المسجد الحرام بأن ليس عليهم هدي، أما من سواهم فيلزمهم الهدي إذا تمتعوا.

بقي مسائل هنا:- من هم حاضري المسجد الحرام ؟

اختلف العلماء فيهم على أقوال:-

·    قالوا: هم من كانوا دون مسافة قصرٍ من مكة، هؤلاء حاضري المسجد الحرام لا يلزمهم هدي إذا تمتعوا.

·    قال بعض العلماء: هم أ هل مكة.

·    قال بعضهم: هم أهل الحرم.

أرجح الأقوال: أن حاضري المسجد الحرام هم أهل مكة وأهل الحرم، فمن كان من أهل مكة وإن كان خارج حدود الحرم فهو من حاضري المسجد الحرام، ومن كان يسكن داخل حدود الحرام وإن كان خارج مكة فهو من حاضري المسجد الحرام، فمثل هؤلاء إذا تمتعوا ليس عليهم هدي، وهذا أرجح الأقوال في المسألة.

بقي مسألة وهي: هل يلزم القارن هدي ؟

نعم، القارن يلزمه هدي ومثله مثل التمتع، لأن العلماء والصحابة يسمون القارن متمتعا، وأيضا لأنه أدى نسكين في سفرةٍ واحدة ومثله المتمتع، فشكرًا لله تعالى على أن مكنّه من أداء نسكين في سفرةٍ واحدة، بل يجب عليه أن يتقرب إلى الله- جلا وعلا- بذبح هدي.

مسألة:

لو أن شخصًا بعد أن أحرم بعمرته في أشهر الحج رجع إلى بلده ثم بعد هذا –حين قرب الحج- قدم إلى مكة وأحرم بالحج، فهل يكون متمتعًا ؟ أعني: هل يسقط التمتع بالرجوع إلى البلد ؟

المسألة محل خلاف، أرجح أقوال العلماء: أنه إذا رجع إلى بلده فإن التمتع يسقط في هذه الحالة، وهو لو حجّ: فيكون حجه مفردًا.

 لكن لو سافر إلى أي بلدٍ آخر:- أرجح أقوال العلماء: أنه لا ينقطع تمتعه، فمثلًا لو أن شخصًا أتى من بلاد الهند مثلًا وأنهى عمرته، ثم بعد هذا سافر إلى المدينة، ثم حين أتى الحج خرج حاجًا إلى مكة: فهذا باقٍ على تمتعه، لأنه وإن سافر لكنه لم يرجع إلى بلده، هذا أرجح الأقوال في المسألة، ثم فيه أثر عن عمر t: "أن التمتع لا يسقط إلا بالرجوع إلى البلد"([26]).

حتى الآن المصنف لم يذكر شيئًا، بل هو إتمامٌ لكلامه السابق، فالمصنف عرّف لنا قبل قليل التمتع ولم يعرف لنا بقية الأنساك، نأتي لتعريف الإفراد.

"الإفراد"هو أن يحرم الإنسان بالحج وحده، ثم يتحلل منه، يعني لا يدخل عليه شي

 

التعليقات (0)

×

هل ترغب فعلا بحذف المواد التي تمت زيارتها ؟؟

نعم؛ حذف