أحكام اللباس
المتخذ مما حرم أكله من الحيوانات
تأليف
أ0د. محمد بن عبدالله بن محمد المحيميد
الأستاذ في قسم الفقه في كلية الشـريعة
والدراسات الإسلامية في جامعة القصـيم
الـمقدمــــــة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشـرف الأنبياء المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:
فقد كرم الله تعالى بني آدم، وفضلهم على كثير ممن خلق، وسخر لهم ما في السماوات والأرض؛ ليعينهم على البقاء في الأرض وعمارتها، وتحقيق الهدف من خلقهم، وهو عبادته ـ.
ومن أعظم ما سخر لهم سبحانه ألبسة يتخذونها من جلود الحيوانات وغيرها، تستر عوراتهم، وتحفظ أبدانهم، ويتجملون بها لبعضهم، قال تعالى: *ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ&([1])، وقال سبحانه: *ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ&([2]).
وقد بين لهم ـما يحل لهم منها وما يحرم.
ولقد توسع الناس في هذا الزمن فيما يتخذونه من الحيوانات لألبستهم وزينتهم، من الشَّعْر وَالصُّوف، وَالْـوَبَر وَالرِّيش، وَالْـعَظْم وَالْـقَرْن، وَالسِّنّ والظُفُر، وَالظِّلْف والخُف، والحَافِر وَالْـعَصَب، والمُصْـران، وغيرها. وهذا بفضل ما يسـر الله لهم من الوسائل التي تمكنهم من اقتنائها ونقلها، والسـيطرة على المتوحش منها من السباع وغيرها، وتصنيع ما يتخذونها منها، واستعماله في اللباس وغيره.
وبما أنه قد اختلط الكفار بالمسلمين في كثير من الدول، وشاع التعامل بينهم، واعتمد كثير من المسلمين في صناعة ألبستهم وغيرها على الكفار فإن هذا الأمر يحتم بيان وتفصـيل ما يحل منها وما يحرم على المسلمين؛ وذلك نظرًا لكثرة الأسئلة عن أحكام اللباس المتخذ من الحيوانات المحرم أكلها.
ومن هنا جاء هذا البحث الموسوم بـ(أحكام اللباس المتخذ مما حرم أكله من الحيوانات)؛ لعله يساهم في الإجابة على بعض الأسئلة التي تطرح في هذا الجانب الهام من جوانب الفقه الإسلامي، وذلك من خلال جمع أقوال العلماء في هذه المسألة، وعرض أدلتهم، وأوجه الاستدلال منها، وما ورد عليها من مناقشات أو اعتراضات، والإجابات عليها. ومن ثم أجتهد في بيان الراجح من هذه الأقوال، ملتزمًا منهج البحث العلمي المتبع.
وقد قسمت هذا البحث إلى ما يلى:
التمهيد،وتحته مطلبان:
المطلب الأول: المقصود باللباس.
المطلب الثاني:المقصود بما حرم أكله من الحيوانات.
المبحث الأول: أحكام جلود ما حرم أكله من حيث الطهارة والنجاسة،وتحته ثلاث مسائل:
المسألة الأولى:جلود ما مات حتف أنفه ولم يدبغ.
المسألة الثانية:ما دبغ من جلود ما مات حتف أنفه.
المسألة الثالثة:جلود ما ذكي منها ولم يدبغ.
المبحث الثاني: حكم ما سوى الجلود مما يمكن استعماله في اللباس من حيث الطهارة والنجاسة وجواز الانتفاع بها،وتحته مطلبان:
المطلب الأول:المتخذ منها من الخنزير.
المطلب الثاني: المتخذ مما سوى الخنزير.
المبحث الثالث: حكم الانتفاع بما يتخذ مما حرم أكله من الحيوانات في اللباس،وتحته مطلبان:
المطلب الأول:حكم الانتفاع بما اتخذ أو صنع من الجلود، وتحته ثلاث مسائل:
المسألة الأولى:حكم الانتفاع بما اتخذ أو صنع من الجلود غير المدبوغة مما مات حتف أنفه.
المسألة الثانية:حكم الانتفاع بما اتخذ أو صنع من الجلود غير المدبوغة مما ذكي.
المسألة الثالثة: حكم الانتفاع بما اتخذ أو صنع من الجلود المدبوغة مما مات حتف أنفه.
المطلب الثاني:حكم الانتفاع بما يتخذ مما حرم أكله من الحيوانات في اللباس، وتحته فرعان:
الفرع الأول: حكم لبس ما اتخذ أو صنع من الجلود.
الفرع الثاني: حكم الانتفاع بما اتخذ أو صنع مما سوى الجلود مما يمكن استعماله في اللباس، (من الشَّعْر، وَالصُّوف، وَالْـوَبَر، وَالرِّيش، وَالْـعَظْم، وَالْـقَرْن، وَالسِّنّ، والظُفُر، وَالظِّلْف، والخُف، والحَافِر، وَالْـعَصَب، والمُصْـران، والكِرْش، والمثانة).
الخاتمة،وتتضمن خلاصة لحكم الانتفاع بما يتخذ ويصنع مما حرم أكله من الحيوانات في اللباس.
فهرس المصادر والمراجع.
فهرس الموضوعات.
أسأل الله أن يجعل هذا البحث خالصًا لوجهه الكريم، ونافعًا لعباده المؤمنين؛ إنه جواد كريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وسلم.
محمد بن عبدالله بن محمد المحيميد
1437هـ
التمهيد
بيان المقصود بالعنوان
وتحته مطلبان:
المطلب الأول: المقصود باللباس.
المطلب الثاني: المقصود بما حرم أكله من الحيوانات.
المطلب الأول
المقصود باللباس
اللِّبَاسُ مِن المُلاَبَسَةِ، أَي: الاخْتِلاطُ والاجْتِمَاعُ، وَمن المَجَازِ قولُه تعالَى: *ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ&([3]). قيل: هُوَ الإِيمانُ. قالَه السُّدِّيُّ. أَو الحَيَاءُ. وَقد لبِسَ الحيَاءَ لِبَاسًا: إِذا إسْتَتَر بِهِ. نقلَه ابنُ القَطّاع.
وَقيل: هُوَ العَمَلُ الصالحُ، أَو سَتْرُ العَوْرَةِ، وَهُوَ سَتْرُ المُتَّقِين، وإِليه يُلْمِحُ قولُه تَعالَى: *ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ&([4]). مما يَدُلُّ عَلَى أَنّ جُلَّ المَقْصِدِ منِ اللِّبَاسِ سَتْرُ العَوْرَةِ، وَمَا زادَ فتَحَسُّنٌ وتَزَيُّنٌ، إِلاّ مَا كَانَ لِدَفْع حَرٍّ وبَرْدٍ.
وَالزَّوْج وَالزَّوْجَة كل مِنْهُمَا لِبَاس للْآخر، وَفِي التَّنْزِيل الْـعَزِيز: *ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ&([5]).
ولباس كل شَـيْء غشاؤه، و"لِبَاس النُّور": أكمته، و"لِبَاس التَّقْوَى": الْـإِيمَان أَو الْـحيَاء أَو الْـعَمَل الصَّالح.
واللباس -بكسـر اللام-: ما يستر الجسم، أو ما يلبس من كسوة. جمعه ألبسة.
ويقال: لبس الثوب لبسًا، وتلبّس بلباس حسن، ولباسًا حسنًا، وعليه ملبس بهيٌّ، ولبوس من ثوب أو درع، وعليهم ملابس ولبس([6]).
والمقصود هنا:ما يستر الجسم، أو يغطي بعض أعضائه، نحو أغطية الرأس، أو ما تستر به اليدين أو الرجلين، وما يتخذ من الأحذية والخفاف، وكذا ما يتخذ من الحلي ووسائل التزين التي يجمل بها البدن.
المطلب الثاني
المقصود بما حرم أكله من الحيوانات
يقصد بما حرم أكله من الحيوانات ما يلي:
1-ما سوى مباح الأكل من الحيوانات، كالفيل والقرد والخنزير والحمر الأهلية والبغال، وكذلك سباع البهائم، مثل: الأسد والفهد والنمر وَالذِّئْب والدب والقرد والفيل والتمساح، ونحوها مما له ناب يفترس به، وكذلك سباع الطير، مثل: النسـر والصقر والبازي والحدأة، ونحوها مما له مخلب.
2-ما مات حتف أنفه أو بذكاة غير شـرعية من مباح الأكل من الحيوانات.
المبحث الأولأحكام جلود ما حرم أكله
من حيث الطهارة والنجاسة
وتحته ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: جلود ما مات حتف أنفه ولم يدبغ.
المسألة الثانية: ما دبغ من جلود ما مات حتف أنفه.
المسألة الثالثة: جلود ما ذكي منها ولم يدبغ.
المسألة الأولى
جلود ما مات حتف أنفه ولم يدبغ
لا خلاف بين الفقهاء في نجاسة جلود ما مات حتف أنفه من الحيوانات ولم يدبغ([7]).
واستدلوا بما يلي:
1-عـن عبدالله بن عباس بقال: سمـعت رسول الله ^يقول: «إذا دبغ الإهاب([8])فقد طهر»([9]).
2-عَنِ ابن عباس أيضًا بقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ^يَقُولُ: «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ»([10]).
ووجه الدلالة:
أن قوله ^: «إذا دبغ الإهاب» يقصد به ما لم يكن طاهرًا من الأهب، كجلود الميتات؛ لأن الطاهر لا يحتاج إلى الدباغ للتطهير؛ إذ من المحال أن يقال في الجلد الطاهر: إذا دبغ فقد طهر.
وفي قوله ^: «فقد طهر» دليل على أن كل إهاب لم يدبغ ليس بطاهر، وإذا لم يكن طاهرًا فهو نجس([11]).
المسألة الثانية
ما دبغ من جلود ما مات حتف أنفه
وقد اختلفوا فيها على أقوال، كما يلي:
القول الأول: أنها تطهر بالدباغ مطلقًا، حتى الكلب والخنزير.
وإليه ذهب الظاهرية([12])، والليث بن سعد([13])، وأبويوسف من الحنفية([14])-رحمهما الله-.
واستدلوا بما يلي:
1-عـن عبدالله بن عباس بقال: سمـعت رسول الله ^يقول: «إذا دبغ الإهاب فقد طهر»([15]).
2-عن سلمة بن المحبق الهذلي اأن النبي ^قال: «دباغ الأديم ذكاته»([16]).
3-عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ^يَقُولُ: «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ»([17]).
4-عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بقَالَ: أَرَادَ النَّبِيُّ ^يَتَوَضَّأُ مِنْ سِقَاءٍ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ مَيْتَةٌ، فَقَالَ: «دِبَاغُهُ يُذْهِبُ خَبَثَهُ، أَوْ رِجْسَهُ، أَوْ نَجَسَهُ»([18]).
ووجه الدلالة:
أن لفظ «الإهاب» و«الأديم» وقوله: «أيما إهاب» ألفاظ عامة، ولم يخص شـيئًا منها، فتدخل فيها أهب وأدم الحيوانات كلها، بما في ذلك الكلب والخنزير([19]).
قال ابن بطال /: (وحجة القول الأول الذى عليه الجمهور: أنه معلوم أن قوله ^: «إذا دبغ الإهاب» هو ما لم يكن طاهرًا من الأهب، كجلود الميتات، وما لم تعمل فيه الذكاة من الدواب والسباع؛ لأن الطاهر لا يحتاج إلى الدباغ للتطهير. ومحال أن يقال في الجلد الطاهر: إذا دبغ فقد طهر.
وفي قوله ^: «إذا دبغ الإهاب فقد طهر» نص ودليل. فالنص منه طهارة الإهاب بالدباغ. والدليل منه أن كل إهاب لم يدبغ فليس بطاهر، وإذا لم يكن طاهرًا فهو نجس، والنجس محرم. وإذا كان ذلك كذلك كان هذا الحديث مبينًا لحديث ابن عباس([20])، وبطل بنصه قول من قال: إن جلد الميتة لا ينتفع به بعد الدباغ)([21]).
ونوقش بما يلي:
أولًا:إن في قصة هذه الأحاديث دلالة على أنه في جلد ما يؤكل لحمه([22]).
ويمكن الإجابة عن ذلك:بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ثانيًا: لو سلمنا بالعموم فقد خصـص بما يلي:
1-بالنسبة لجلود السباع خصص بالأحاديث التالية:
- عَنْ أَبِي الْـمَلِيحِ بْنِ أُسَامَةَ الهذلي عَنْ أَبِيهِ ا: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ ^نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ»([23]).
- وَفَد الْـمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِيَكْرِبَ اعَلَى مُعَاوِيَةَ افقَالَ لَهُ: «أَنْشُدُكَ بِاللهِ! هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ^نَهَى عَنْ لُبُوسِ جُلُودِ السِّبَاعِ، وَالرُّكُوبِ عَلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ»([24]).
ووجه الدلالة من الحديثين:أن هذا النهي عام في المدبوغ من جلود السباع وغير المدبوغ([25]).
وأجيب على ذلك بأجوبة، منها:
أ- بأن غَايَةَ مَا فِيهَما مُجَرَّدُ النَّهْيِ عَنْ الرُّكُوبِ عَلَيْهَا وَافْتِرَاشِهَا، وَلَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ النَّجَاسَةِ، كَمَا لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ النَّهْيِ عَنْ الذَّهَبِ وَالْـحَرِيرِ وَنَجَاسَتِهِمَا([26]).
قال في شـرح مشكل الآثار: (قَالَ أَبُوجَعْفَرٍ: وَكَانَ فِيمَا قَدْ رُوِّينَاهُ فِي الْـبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا الْـبَابِ عَنْ رَسُولِ اللهِ ^مِنْ قَوْلِهِ: «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» مَا قَدْ عَمَّ بِهِ الْـأُهُبَ كُلَّهَا، وَدَخَلَ فِي ذَلِكَ جُلُودُ السِّبَاعِ، وَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يُخْرِجَ مِمَّا قَدْ عَمَّهُ رَسُولُ اللهِ ^بِذَلِكَ الْـقَوْلِ إِلَّا بِمَا يُوجِبُ لَهُ إخْرَاجُهُ بِهِ، مِنْ آيَةٍ مَسْطُورَةٍ، وَمِنْ سُنَّةٍ مَأْثُورَةٍ، وَمِنْ إجْمَاعٍ مِنْ أَهْلِ الْـعِلْمِ عَلَيْهِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَجَبَ بِهِ دُخُولُ جُلُودِ السِّبَاعِ فِي الْـأُهُبِ الَّتِي تَجِبُ طَهَارَتُهَا بِالدِّبَاغِ.
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ عَقَلْنَا أَنَّ النَّهْيَ الَّذِي جَاءَ فِي الْـآثَارِ الَّتِي رُوِّينَاهَا فِي هَذَا الْـبَابِ عَنِ الرُّكُوبِ عَلَى جُلُودِ السِّبَاعِ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّهَا غَيْرُ طَاهِرَةٍ بِالدِّبَاغِ الَّذِي فُعِلَ بِهَا، وَلَكِنْ لِمَعْنًى سِوَى ذَلِكَ، وَهُوَ رُكُوبُ الْـعَجَمِ عَلَيْهَا، لَا مَا سِوَى ذَلِكَ.
وَمِمَّا قَدْ دَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مَا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ امِمَّا حَكَاهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ^«مِنْ نَهْيِهِ عَنِ الْـخَزِّ، عَنْ رُكُوبٍ عَلَيْهِ، وَعَنْ جُلُوسٍ عَلَيْهِ»([27]). فَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ نَهْيٌ مِنْهُ عَنْ لِبَاسِ الثِّيَابِ الْـمَعْمُولَةِ مِنْهُ. وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَقَدْ لَبِسَ الْـخَزَّ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ^وَمِنْ تَابِعِيهِمْ مَنْ قَدْ لَبِسَهُ، وَجَرَى النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا؟!
وَإِذَا كَانَ لُبْسُهُ مُبَاحًا وَالرُّكُوبُ عَلَيْهِ مَكْرُوهًا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْـكَرَاهَةَ لِلرُّكُوبِ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا، لَا لِمَا سِوَاهُ.
وَمِثْلُ ذَلِكَ نَهْيُ رَسُولِ اللهِ ^أَنْ يَجْعَلَ الرَّجُلُ أَسْفَلَ ثِيَابِهِ حَرِيرًا مِثْلَ الْـأَعَاجِمِ، أَوْ يَجْعَلَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ حَرِيرًا أَمْثَالَ الْـأَعَاجِمِ([28])، مَعَ إبَاحَتِهِ أَعْلَامَ الْـحَرِيرِ فِي الثِّيَابِ الَّتِي مَقَادِيرُهَا أَكْثَرُ مِنْ مَقَادِيرِ الْـحَرِيرِ الَّذِي فِي هَذَيْنِ الْـمَعْنَيَيْنِ.
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ عَقَلْنَا أَنَّ النَّهْيَ عَمَّا نَهَى عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ الْـحَرِيرَ بِعَيْنِهِ، وَلَكِنْ لِلتَّشْبِيهِ بِالْـعَجَمِ مِمَّا يَفْعَلُونَهُ فِيهِ، وَفِيمَا يَلْبَسُونَ ثِيَابَهُمْ عَلَيْهِ)([29]).
ب- أن النهي عن افتراش جلود السباع إنما كان لكونها لا يزال عنها الشعر في العادة؛ لأنها إنما تقصد للشعر، كجلد الفهد والنمر. فإذا دبغت بقي الشعر نجسًا؛ فإنه لا يطهر بالدبغ على المذهب الصحيح. فلهذا نهي عنها([30]).
ج- أن النهي محمول على ما قبل الدبغ([31]).
واعترض على هذا:بأنه ضعيف؛ إذ لا معنى لتخصـيص السباع حينئذ، بل كل الجلود في ذلك سواء([32]).
وأجيب عن هذا الاعتراض:بأنها خصت بالذكر؛ لأنها كانت تستعمل قبل الدبغ غالبًا أو كثيرًا([33]).
2-أما بالنسبة لجلد الخنزير فقد خصص بقول الله تعالى: *ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ&([34]).
فإن الضَّمِيرُ في قوله: *ﮮ ﮯ&رَاجِعٌ إلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وهو الخنزير.
وعلى هذا فَالْـخِنْزِيرُ كُلُّهُ رِجْسٌ. وَالرِّجْسُ فِي اللُّغَةِ: الْـقَذَرُ، فَكَمَا أَنَّ الْـعَذِرَةَ لَا تَقْبَلُ التَّطْهِيرَ فَكَذَلِكَ الْـخِنْزِيرُ؛ لِأَنَّه سَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّمِ وَلَحْمِ الْـمَيْتَةِ، وَهُمَا لَا يَقْبَلَانِ التَّطْهِيرَ، فَكَذَلِكَ هُوَ([35]).
كما أن الرِّجْس وَاجِبٌ اجْتِنَابُهُ؛ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: *ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ&([36]). فَكَانَ وُجُودُ الدِّبَاغِ -فِي حَقِّهِ- وَالْـعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ([37]).
ونوقش:
بعدم التسليم بأن الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وهو الخنزير، بل هو راجع إلى كل واحد من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير، فكلها رجس، أي: نجس. ويكون هذا تعليلًا لقوله: *ﮠ&. فبين بذلك أن هذه الأشـياء حرام؛ لأنها نجسة؛ لأنه لو لم يذكر *ﮮ ﮯ&لما كان يلزم من صدر الكلام النجاسة لهذه الأشـياء؛ لأن الحرمة لا تستلزم النجاسة.
وعلى هذا يلزم اقتصار النجاسة في الخنزير على لحمه؛ لأن الله تعالى قال: *ﮡ ﮢ ﮣ&. والطعم لا يكون إلا في اللحم دون غيره. وعلى هذا يجوز استعمال جلده بعد الدباغ، واستعمال شعره([38]).
قلت:يؤيده على أن السـياق في المطعومات حديث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بقَالَ: مَاتَتْ شَاةٌ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَاتَتْ فُلانَةُ -يَعْنِي: الشَّاةَ- فَقَالَ: «فَلَوْلا أَخَذْتُمْ مَسْكَهَا»! فَقَالَتْ: نَأْخُذُ مَسْكَ شَاةٍ قَدْ مَاتَتْ؟! فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ ^: «إِنَّمَا قَالَ اللهُ Q:*ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ&فَإِنَّكُمْ لَا تَطْعَمُونَهُ، إِنْ تَدْبُغُوهُ، فَتَنْتَفِعُوا بِهِ». فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهَا، فَسَلَخَتْ مَسْكَهَا، فَدَبَغَتْهُ، فَأَخَذَتْ مِنْهُ قِرْبَةً، حَتَّى تَخَرَّقَتْ عِنْدَهَا([39]).
وعلى التسليم بأن الكل رجس فإن دباغه يذهب ذلك كما صـرح به في حديث ابن عباس بونصه: أَرَادَ النَّبِيُّ ^يَتَوَضَّأُ مِنْ سِقَاءٍ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ مَيْتَةٌ، فَقَالَ: «دِبَاغُهُ يُذْهِبُ خَبَثَهُ، أَوْ رِجْسَهُ، أَوْ نَجَسَهُ». وهو حديث صحيح. وقد تقدم تخريجه([40]).
ثالثًا:أن جلد ما لا يؤكل لحمه لا يسمى إهابًا([41]).
وأجيب عن ذلك:
1-أن هذا خلاف لغة العرب؛ فقد جعلت العرب جلد الإنسان إهابًا([42]).
2-أنه جلد حيوان طاهر، فأشبه المأكول([43]).
ويمكن أن يناقش:بعدم التسليم بطهارة السباع.
القول الثاني: أنها تطهر بالدباغ، ما عدا الخنزير.
وإليه ذهب جمهور الفقهاء([44])، ومنهم الحنفية([45])؛
وهو رواية عن الإمام مالك /، وعليها أكثر أصحابه([46]).
وروي ذلك عن جابر بن عبدالله ا([47]).
واستدلوا بنفس أدلة القول الأول على قولهم بأنها تطهر بالدباغ.
واستدلوا على إخراج الخنزير بقولهم:
1-لِأَنَّ نَجَاسَتَهُ لَيْسَتْ لِمَا فِيهِ مِنْ الدَّمِ وَالرُّطُوبَةِ، بَلْ هُوَ نَجِسُ الْـعَيْنِ؛ لقول الله تعالى: *ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ&([48]).
فإن الضَّمِيرُ في قوله: *ﮮ ﮯ&رَاجِعٌ إلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وهو الخنزير. وعلى هذا فَالْـخِنْزِيرُ كُلُّهُ رِجْسٌ. وَالرِّجْسُ فِي اللُّغَةِ الْـقَذَرُ، فَكَمَا أَنَّ الْـعَذِرَةَ لَا تَقْبَلُ التَّطْهِيرَ فَكَذَلِكَ الْـخِنْزِيرُ؛ لِأَنَّه سَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّمِ وَلَحْمِ الْـمَيْتَةِ، وَهُمَا لَا يَقْبَلَانِ التَّطْهِيرَ، فَكَذَلِكَ هُوَ([49]).
كما أن الرِّجْس وَاجِبٌ اجْتِنَابُهُ؛ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: *ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ&([50]). فَكَانَ وُجُودُ الدِّبَاغِ -فِي حَقِّهِ- وَالْـعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ([51]).
وقد تقدمت مناقشة هذا الاستدلال ضمن أدلة القول الأول.
2-أنَّ جِلْدَهُ لَا يَحْتَمِلُ الدِّبَاغَ؛ لِأَنَّ لَهُ جُلُودًا مُتَرَادِفَةً، بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، كَمَا لِلْآدَمِيِّ([52]).
قلت:ويمكن مناقشته:
بأنه تعليل في مقابلة النص، وهو قوله ^: «إذا دبغ الإهاب فقد طهر». وغيره من الأحاديث المذكورة في أدلة القول الأول، وهي عامة في كل إهاب.
القول الثالث: أنها تطهر بالدباغ، ما عدا الخنزير والكلب.
وهو رواية في مذهب الحنفية([53])؛
وإليه ذهب الشافعية([54])، وقول في مذهب الحنابلة([55]).
واستدلوا بنفس أدلة القول الثاني في أنها تطهر بالدباغ ما عدا الخنزير.
وأخرجوا الكلب محتجين بما يلي:
1-أن الكلب نجس العين؛ لما روى أبوهُرَيْرَةَ اقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ^: «طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْـكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ»([56]).
وَجْهُ الدَّلَالَةِ:
أَنَّ الْـمَاءَ لَوْ لَمْ يَكُنْ نَجِسًا لَمَا أَمَرَ بِإِرَاقَتِهِ؛ لِمَا فِيهَ مِنْ إتْلَافِ الْـمَالِ الْـمَنْهِيِّ عَنْ إضَاعَتِهِ.
وَأَنَّ الطَّهَارَةَ إمَّا عَنْ حَدَثٍ أَوْ نَجَسٍ، وَلَا حَدَثَ عَلَى الْـإِنَاءِ، فَتَعَيَّنَتْ طَهَارَةُ النَّجَسِ. فَثَبَتَ نَجَاسَةُ فَمِهِ، وَهُوَ أَطْيَبُ أَجْزَائِهِ، بَلْ هُوَ أَطْيَبُ الْـحَيَوَانِ نَكْهَةً؛ لِكَثْرَةِ مَا يَلْهَثُ، فَبَقِيَّتُهَا أَوْلَى([57]).
ونوقش:
بأن الأمر بالغسل والإراقة ليس لعلة النجاسة، وإنما لعلة تعبدية -الله أعلم بها-، أو لغيرها([58]).
قال في مواهب الجليل: (وَاخْتَارَ ابْنُ رُشْدٍ كَوْنَ الْـمَنْعِ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ الْـكَلْبُ كَلْبًا، فَيَكُونَ قَدْ دَاخَلَ مِنْ لُعَابِهِ الْـمَاءَ مَا يُشْبِهُ السُّمَّ.
قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ: تَحْدِيدُهُ بِالسَّبْعِ؛ لِأَنَّ السَّبْعَ مِنْ الْـعَدَدِ مُسْتَحَبٌّ فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ التَّدَاوِي، لَا سِـيَّمَا فِيمَا يُتَوَقَّى مِنْهُ السُّمُّ، وَقَدْ قَالَ فِي مَرَضِهِ ^: «هَرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ، لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ»([59]). وَقَالَ: «مَنْ تَصَبَّحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ عَجْوَةٍ لَمْ يَضُـرَّهُ ذَلِكَ الْـيَوْمَ سُمٌّ وَلَا سِحْرٌ»([60]).
قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَرُدَّ عَلَيْهِ بِنَقْلِ الْـأَطِبَّاءِ أَنَّ الْـكَلْبَ يَمْتَنِعُ مِنْ وُلُوغِ الْـمَاءِ.
وَأَجَابَ حَفِيدُهُ: بِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْتَنِعُ إذَا تَمَكَّنَ مِنْهُ الْـكَلْبُ، أَمَّا فِي أَوَائِلِهِ فَلَا). اهـ([61]).
قلت:وقد ذكر بعض المعاصـرين: أنه تم التوصل من خلال التحليلات المختبرية إلى ما يوافق هذا القول([62]).
2-أن نَجَاسَةُ الْـكَلْبِ لَازِمَةٌ، لَا طَارِئَةٌ فَلَا تطْهُرُ بِالْـمُعَالَجَةِ، كَالْـعُذْرَةِ وَالدَّمِ([63]).
3-أَنَّ الْـحَيَاةَ أقوى في التطهير من الدباغة؛ لتطهيرها جَمِيعَ الْـحَيَوَانِ حَيًّا، وَاخْتِصَاصُ الدِّبَاغَةِ بِتَطْهِيرِ جِلْدِهَ منفردًا. فلما لم تؤثر الْـحَيَاةُ فِي تَطْهِيرِ الْـكَلْبِ فَالدِّبَاغَةُ أَوْلَى أَنْ لَا تُؤَثِّرَ فِي تَطْهِيرِ جِلْدِهِ([64]).
واعترض على هذه الأدلة بما يلي:
1- بعدم التسليم بأن الكلب نجس([65]).
2-قياس الكلب على البغل والحمار، فكما أنه يطهر جلدهما بالدباغ، فكذلك جلد الكلب([66]).
ونوقش:
القياس على البغل والحمار قياس مع الفارق؛ فالبغل والحمار طاهران وهما حيان، بخلاف الكلب، فهو نجس العين حتى في حال الحياة([67]).
ويمكن أن يجاب عن هذه المناقشة:بعدم التسليم بنجاسة الكلب؛ لما مر من الأدلة.
3-أن الانتفاع به مباح، ولو كانت عينه نجسة لما أبيح الانتفاع به([68]).
القول الرابع: أنها لا تطهر بالدباغ مطلقًا.
وإليه ذهب بعض المالكية([69])، وهو المشهور من مذهب الحنابلة([70]).
وممن قال بهذا القول الأوزاعي وابن المبارك وإسحاق وأبوثور
ويزيد بن هارون([71])-رحمهم الله-.
وروي هذا القول عن عمر بن الخطاب، وابنه، وعائشة، وعمران بن حصـين([72])ي.
واستدلوا بما يلي:
1-قوله تعالى: *ﭑ ﭒ ﭓ&([73]).
ووجه الدلالة:
أن الآية عامة فتشمل جميع أجزاء الميتة من جلد وغيره([74]).
ونوقش:
بأن العموم في الآية خصصته السنة بعدد من الأحاديث الصحيحة ([75]). وقد ذكرنا بعضها في أدلة القول الأول.
2-حديث عبدالله بن عكيم: أتانا كتاب رسول الله ^قبل موته بشهر: «أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب»([76]).
ووجه الدلالة:
أن النهي عام، فيشمل المدبوغ وغير المدبوغ، مما يحل أكله ومما يحرم.
وكذلك فهو آخر الأمرين عن النبي ^، فيكون ناسخًا لما قبله([77]).
ونوقش بما يلي:
(1) إن الحديث مضطرب الإسناد، وسبب الاضطراب: أنّه روي أن الكتاب أتاهم قبل موته بشهر، وفي رواية: بشهرين، وفي أخرى: بأربعين يومًا([78]).
وأجيب:بأن الاضطراب مردود؛ حيث سمع ابن عكيم الكتاب يقرأ، وسمعه من مشايخ من جهينة عن النبي ^، فلا اضطراب([79]).
(2) إن الحديث مرسل، فابن عكيم ليس بصحابي([80]).
وأجيب:
إن الحـديث صحيـح. والإرسال في هـذا لا يضـر؛ لأن كـتابه ^كلفظه([81]).
(3) إن الحديث روي عن مشـيخة مجهولين، لم تثبت صحبتهم([82]).
وأجيب:
إن هؤلاء الأشـياخ من الصحابة، وعليه فلا يضـر الجهل بأسمائهم([83]).
(4) على التسليم بصحته فإن محمول على الجلد قبل الدباغ؛ جمعًا بينه وبين الأحاديث الصحيحة؛ لأن الإهاب عند أهل اللغة يقصد به الجلد قبل الدباغ، فإذا دبغ لا يسمى إهابًا([84]).
3- ما رواه سلمة بن المحبق الهذلي اأن النبي ^قال: «دباغ الأديم ذكاته»([85]).
ووجه الدلالة:
قالوا: شَبَّهَ الدَّبْغَ بِالذَّكَاةِ. وَالذَّكَاةُ إنَّمَا تُعْمَلُ فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ([86]).
ونوقش:
بعدم التسليم بأن الذكاة لا تعمل إلا في مأكول اللحم خاصة، بل تعمل فيه وفي غيره. ويستغنى بها عن الدباغ([87]).
القول الخامس: أنها تطهر طهارة غير كاملة.
فينتفع بها إذا دبغت في الجلوس عليها والعمل، والامتهان في الأشـياء اليابسة، كالغربلة وشبهها، ولا تباع، ولا يتوضأ فيها، ولا يصلى عليها.
وهذا قول للإمام مالك /، وعليه بعض أصحابه([88]).
وحجتهمفي عدم جواز الوضوء فيها والصلاة عليها وبيعها:
1-ما سبق من حديث عبدالله بن عكيم: أتانا كتاب رسول الله ^قبل موته بشهر: «أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب»([89]).
2- ما روي عن القاسم بن محمد /أنه قال لعائشة ل: «ألا نجعل لك فروًا تلبسـينه؟ قالت: إني لأكره جلود الميتة. قال: إنا لا نجعله إلا ذكيًا. فجعلناه، فكانت تلبسه»([90]).
3- ما روي عن ابن عمر ب: «أنه كان لا يلبس إلا ذكيًا»([91]).
واعترض على هذا: بما سبق من قوله ^: «أيما إهاب دبغ فقد طهر».
ورد هذا الاعتراض:
بحمل الطهارة في الحديث على الطهارة اللغوية، وهي النظافة، لا الطهارة الحقيقية([92]).
- وحجتهم في تجويز الانتفاع بها في بعض الأشـياء:
أن النبي ^أهدى حلة من حرير لعمر ا، وقال: «لم أعطكها لتلبسها، ولكن لتبيعها أو تكسوها»([93]).
ووجه الدلالة:
قالوا: أباح له ^التصـرف في الحلة في بعض الوجوه، فكذلك جلد الميتة يجوز الانتفاع به في بعض الوجوه دون بعض([94]).
الترجيح:
الراجح -والله أعلم-: القول الأول، القائل بطهارة جلود الحيوانات بالدباغ مطلقًا، بما في ذلك جلد الكلب والخنزير؛ لقوة أدلته، وورود المناقشة على أدلة المخالفين.
ولأن الجلد يخرج عَنْ حُكْمِ الحيوان بَعْدَ الدِّبَاغِ، ويصـير بِمَنْزِلَةِ الثَّوْبِ وَالْـخَشَبِ([95])، فيخرج من التَّحْرِيمَ الوارد في شأن الميتة وما يحرم أكله من الحيوانات.
المسألة الثالثة
جلود ما ذكي منها ولم يدبغ
اختلف العلماء فيها على قولين، هما:
القول الأول: أنها تطهر بالذكاة مطلقًا، إلا الخنزير فلا يطهر بالذكاة.
وإليه ذهب أبوحنيفة([96])ومالك([97])-رحمهما الله-.
واستدلوا بما يلي:
1-ما رواه سلمة بن المحبق الهذلي اأَنَّ نَبِيَّ اللهِ ^دَعَا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ بِمَاءٍ مِنْ عِنْدِ امْرَأَةٍ، فَقَالَتْ: مَا عِنْدِي مَاءٌ إِلَّا فِي قِرْبَةٍ لِي مَيْتَةٍ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ قَدْ دَبَغَتْهَا»؟ قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: «فَإِنَّ ذَكَاتَهَا دِبَاغُهَا»([98]).
وفي رواية أن النبي ^قال: «دباغ الأديم ذكاته»([99]).
وجه الدلالة:
قالوا: شبه الدباغ بالذكاة، والمشبه به أقوى من المشبه. فإذا طهر الدباغ مع ضعفه فالذكاة أولى.
ولأن الدباغ يرفع العلة بعد وجودها، والذكاة تمنعها، والمنع أقوى من الرفع([100]).
ونوقش بما يلي:
أ- يحتمل أنه أراد بالذكاة: التطييب، من قولهم: رائحة ذكية، أي: طيبة. وهذا يطيب الجميع. ويدل على هذا أنه أضاف الذكاة إلى الجلد خاصة, والذي يختص به الجلد هو تطييبه وطهارته. وأما الذكاة التي هي الذبح فلا تضاف إلا إلى الحيوان كله.
ب-أن في طُرُقِ الحديث دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْـمُرَادَ بِالذَّكَاةِ طَهَارَتُهُ([101])، فسمى الطهارة ذكاة. فيكون اللفظ عامًا في كل جلد، فيتناول ما اختلفنا فيه.
ج- أن في قصة الحـديث دلالة على أنه في جـلد ما يؤكل لحمه([102]).
د- أن القول بأن المشبه به أقوى من المشبه غير لازم؛ فإن الله تعالى قال في صفة الحور: *ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ&([103]). وهنَّ أحسن من البيض. والمرأة الحسناء تشبه بالظبية وبقرة الوحش، وهي أحسن منهما.
ثم إن الدبغ إنما يؤثر في مأكول اللحم، فكذلك ما شبه به([104]).
2- القياس على الدباغ، فكما أن الذكاة تشارك الدباغ في إزالة الدماء السائلة والرطوبات النجسة فيجب أن تشاركه في إفادة الطهارة([105]).
ونوقش:
بعدم صحة القياس؛ لوجود الفارق؛ لكون الدبغ مزيلًا للخبث والرطوبات كلها، مطيبًا للجلد على وجه يتهيأ به للبقاء على وجه لا يتغير، والذكاة لا يحصل بها ذلك، فلا يستغني بها عن الدبغ([106]).
القول الثاني: أنها لا تطهر بالذكاة.
وإلى هذا القول ذهب جمهور الفقهاء وأهل الحديث، ومنهم الإمام مالك /في قول له وبعض أصحابه([107])، والشافعية([108])، والحنابلة([109]).
واستدلوا بما يلي:
1-عَنْ أَبِي الْـمَلِيحِ بْنِ أُسَامَةَ الهذلي عَنْ أَبِيهِ ا: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ ^نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ»([110]).
2-عَنْ خَالِدٍ بن معدان قَالَ: وَفَدَ الْـمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِيكَرِبَ اعَلَى مُعَاوِيَةَ افقَالَ لَهُ: «أَنْشُدُكَ بِاللهِ! هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ^نَهَى عَنْ لُبُوسِ جُلُودِ السِّبَاعِ، وَالرُّكُوبِ عَلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ»([111]).
ووجه الدلالة من الحديثين: أن هذا النهي عام في المذكى وغيره([112]).
ونوقش:
بأن غَايَةَ مَا فِيهَا مُجَرَّدُ النَّهْيِ عَنْ الرُّكُوبِ عَلَيْهَا وَافْتِرَاشِهَا، وَلَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ النَّجَاسَةِ، كَمَا لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ النَّهْيِ عَنْ الذَّهَبِ وَالْـحَرِيرِ وَنَجَاسَتِهِمَا([113]).
3-عن عبـدالله بن عباس بقـال: سمـعت رسول الله ^يقول: «إذا دبغ الإهاب فقد طهر»([114]).
ووجه الدلالة:
أن قوله ^: «إِذا دبغ الإهاب فقد طهر» خرج مخرج الشَّـرْط وَالْـجَزَاء، -فَقَوله: «إِذا دبغ» شَـرط، وَقَوله: «فقد طهر» جَزَاء.- وَالْـجَزَاء لَا يسْبق الشَّـرْط، كَمَا يُقَال: إِذا دخلت الدَّار فَأَنت حر، فَمَا لم يدْخل لَا يعْتق([115]). وهو عام، يشمل كل إهاب، سواءً كان مأكول اللحم أو غير مأكول، لكن خرج مأكول اللحم إذا ذكي؛ للإجماع على طهارته.
4-أنه ذبح لا يطهر اللحم، وهو المقصود الأصلي من الذبح، فلا يطهر الجلد من باب أولى، كذبح المجوسـي، أو الذبح غير المشـروع، كذبح المحرم الصـيد([116]).
الترجيح:
من خلال ما سبق يترجح -والله أعلم-: ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني، من أن جلود ما حرم أكله لا تطهر بالذكاة؛ لقوة أدلتهم، وضعف أدلة المخالفين، وورود المناقشات عليها.
المبحث الثانيحكم ما سوى الجلود مما يمكن استعماله في اللباس
من حيث الطهارة والنجاسة وجواز الانتفاع بها
وهي: (الشَّعْر، وَالصُّوف، وَالْـوَبَر، وَالرِّيش، وَالْـعَظْم، وَالْـقَرْن، وَالسِّنّ، والظُفُر، وَالظِّلْف، والخُف، والحَافِر، وَالْـعَصَب، والمُصْـران، والكِرْش، والمثانة).
وتحته مطلبان:
المطلب الأول: المتخذ منها من الخنزير.
المطلب الثاني: المتخذ مما سوى الخنزير.
المطلب الأول
المتخذ منها من الخنزير
حكى بعض العلماء الإجماع على تحريم الخنزير بجملته، فقَالَ ابن المنذر/: (وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْـعِلْمِ عَلَى تَحْرِيمِ الْـخِنْزِيرِ، وَالْـخِنْزِيرُ مُحَرَّمٌ بِالْـكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الْـأُمَّةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِعْمَالِ شَعْرِهِ)([117]).
وقال فخر الدين الرازي /: (أَجْمَعَتِ الْـأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْـخِنْزِيرَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مُحَرَّمٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى لَحْمَهُ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ الِانْتِفَاعِ مُتَعَلِّقٌ بِه.
أَمَّا شَعْرُ الْـخِنْزِيرِ فَغَيْ
أحكام اللباس
المتخذ مما حرم أكله من الحيوانات
تأليف
أ0د. محمد بن عبدالله بن محمد المحيميد
الأستاذ في قسم الفقه في كلية الشـريعة
والدراسات الإسلامية في جامعة القصـيم
الـمقدمــــــة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشـرف الأنبياء المرسلين، نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد:
فقد كرم الله تعالى بني آدم، وفضلهم على كثير ممن خلق، وسخر لهم ما في السماوات والأرض؛ ليعينهم على البقاء في الأرض وعمارتها، وتحقيق الهدف من خلقهم، وهو عبادته ـ.
ومن أعظم ما سخر لهم سبحانه ألبسة يتخذونها من جلود الحيوانات وغيرها، تستر عوراتهم، وتحفظ أبدانهم، ويتجملون بها لبعضهم، قال تعالى: *ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ&([1])، وقال سبحانه: *ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ&([2]).
وقد بين لهم ـما يحل لهم منها وما يحرم.
ولقد توسع الناس في هذا الزمن فيما يتخذونه من الحيوانات لألبستهم وزينتهم، من الشَّعْر وَالصُّوف، وَالْـوَبَر وَالرِّيش، وَالْـعَظْم وَالْـقَرْن، وَالسِّنّ والظُفُر، وَالظِّلْف والخُف، والحَافِر وَالْـعَصَب، والمُصْـران، وغيرها. وهذا بفضل ما يسـر الله لهم من الوسائل التي تمكنهم من اقتنائها ونقلها، والسـيطرة على المتوحش منها من السباع وغيرها، وتصنيع ما يتخذونها منها، واستعماله في اللباس وغيره.
وبما أنه قد اختلط الكفار بالمسلمين في كثير من الدول، وشاع التعامل بينهم، واعتمد كثير من المسلمين في صناعة ألبستهم وغيرها على الكفار فإن هذا الأمر يحتم بيان وتفصـيل ما يحل منها وما يحرم على المسلمين؛ وذلك نظرًا لكثرة الأسئلة عن أحكام اللباس المتخذ من الحيوانات المحرم أكلها.
ومن هنا جاء هذا البحث الموسوم بـ(أحكام اللباس المتخذ مما حرم أكله من الحيوانات)؛ لعله يساهم في الإجابة على بعض الأسئلة التي تطرح في هذا الجانب الهام من جوانب الفقه الإسلامي، وذلك من خلال جمع أقوال العلماء في هذه المسألة، وعرض أدلتهم، وأوجه الاستدلال منها، وما ورد عليها من مناقشات أو اعتراضات، والإجابات عليها. ومن ثم أجتهد في بيان الراجح من هذه الأقوال، ملتزمًا منهج البحث العلمي المتبع.
وقد قسمت هذا البحث إلى ما يلى:
التمهيد،وتحته مطلبان:
المطلب الأول: المقصود باللباس.
المطلب الثاني:المقصود بما حرم أكله من الحيوانات.
المبحث الأول: أحكام جلود ما حرم أكله من حيث الطهارة والنجاسة،وتحته ثلاث مسائل:
المسألة الأولى:جلود ما مات حتف أنفه ولم يدبغ.
المسألة الثانية:ما دبغ من جلود ما مات حتف أنفه.
المسألة الثالثة:جلود ما ذكي منها ولم يدبغ.
المبحث الثاني: حكم ما سوى الجلود مما يمكن استعماله في اللباس من حيث الطهارة والنجاسة وجواز الانتفاع بها،وتحته مطلبان:
المطلب الأول:المتخذ منها من الخنزير.
المطلب الثاني: المتخذ مما سوى الخنزير.
المبحث الثالث: حكم الانتفاع بما يتخذ مما حرم أكله من الحيوانات في اللباس،وتحته مطلبان:
المطلب الأول:حكم الانتفاع بما اتخذ أو صنع من الجلود، وتحته ثلاث مسائل:
المسألة الأولى:حكم الانتفاع بما اتخذ أو صنع من الجلود غير المدبوغة مما مات حتف أنفه.
المسألة الثانية:حكم الانتفاع بما اتخذ أو صنع من الجلود غير المدبوغة مما ذكي.
المسألة الثالثة: حكم الانتفاع بما اتخذ أو صنع من الجلود المدبوغة مما مات حتف أنفه.
المطلب الثاني:حكم الانتفاع بما يتخذ مما حرم أكله من الحيوانات في اللباس، وتحته فرعان:
الفرع الأول: حكم لبس ما اتخذ أو صنع من الجلود.
الفرع الثاني: حكم الانتفاع بما اتخذ أو صنع مما سوى الجلود مما يمكن استعماله في اللباس، (من الشَّعْر، وَالصُّوف، وَالْـوَبَر، وَالرِّيش، وَالْـعَظْم، وَالْـقَرْن، وَالسِّنّ، والظُفُر، وَالظِّلْف، والخُف، والحَافِر، وَالْـعَصَب، والمُصْـران، والكِرْش، والمثانة).
الخاتمة،وتتضمن خلاصة لحكم الانتفاع بما يتخذ ويصنع مما حرم أكله من الحيوانات في اللباس.
فهرس المصادر والمراجع.
فهرس الموضوعات.
أسأل الله أن يجعل هذا البحث خالصًا لوجهه الكريم، ونافعًا لعباده المؤمنين؛ إنه جواد كريم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وسلم.
محمد بن عبدالله بن محمد المحيميد
1437هـ
التمهيد
بيان المقصود بالعنوان
وتحته مطلبان:
المطلب الأول: المقصود باللباس.
المطلب الثاني: المقصود بما حرم أكله من الحيوانات.
المطلب الأول
المقصود باللباس
اللِّبَاسُ مِن المُلاَبَسَةِ، أَي: الاخْتِلاطُ والاجْتِمَاعُ، وَمن المَجَازِ قولُه تعالَى: *ﭾ ﭿ ﮀ ﮁﮂ&([3]). قيل: هُوَ الإِيمانُ. قالَه السُّدِّيُّ. أَو الحَيَاءُ. وَقد لبِسَ الحيَاءَ لِبَاسًا: إِذا إسْتَتَر بِهِ. نقلَه ابنُ القَطّاع.
وَقيل: هُوَ العَمَلُ الصالحُ، أَو سَتْرُ العَوْرَةِ، وَهُوَ سَتْرُ المُتَّقِين، وإِليه يُلْمِحُ قولُه تَعالَى: *ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ&([4]). مما يَدُلُّ عَلَى أَنّ جُلَّ المَقْصِدِ منِ اللِّبَاسِ سَتْرُ العَوْرَةِ، وَمَا زادَ فتَحَسُّنٌ وتَزَيُّنٌ، إِلاّ مَا كَانَ لِدَفْع حَرٍّ وبَرْدٍ.
وَالزَّوْج وَالزَّوْجَة كل مِنْهُمَا لِبَاس للْآخر، وَفِي التَّنْزِيل الْـعَزِيز: *ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞﭟ&([5]).
ولباس كل شَـيْء غشاؤه، و"لِبَاس النُّور": أكمته، و"لِبَاس التَّقْوَى": الْـإِيمَان أَو الْـحيَاء أَو الْـعَمَل الصَّالح.
واللباس -بكسـر اللام-: ما يستر الجسم، أو ما يلبس من كسوة. جمعه ألبسة.
ويقال: لبس الثوب لبسًا، وتلبّس بلباس حسن، ولباسًا حسنًا، وعليه ملبس بهيٌّ، ولبوس من ثوب أو درع، وعليهم ملابس ولبس([6]).
والمقصود هنا:ما يستر الجسم، أو يغطي بعض أعضائه، نحو أغطية الرأس، أو ما تستر به اليدين أو الرجلين، وما يتخذ من الأحذية والخفاف، وكذا ما يتخذ من الحلي ووسائل التزين التي يجمل بها البدن.
المطلب الثاني
المقصود بما حرم أكله من الحيوانات
يقصد بما حرم أكله من الحيوانات ما يلي:
1-ما سوى مباح الأكل من الحيوانات، كالفيل والقرد والخنزير والحمر الأهلية والبغال، وكذلك سباع البهائم، مثل: الأسد والفهد والنمر وَالذِّئْب والدب والقرد والفيل والتمساح، ونحوها مما له ناب يفترس به، وكذلك سباع الطير، مثل: النسـر والصقر والبازي والحدأة، ونحوها مما له مخلب.
2-ما مات حتف أنفه أو بذكاة غير شـرعية من مباح الأكل من الحيوانات.
المبحث الأولأحكام جلود ما حرم أكله
من حيث الطهارة والنجاسة
وتحته ثلاث مسائل:
المسألة الأولى: جلود ما مات حتف أنفه ولم يدبغ.
المسألة الثانية: ما دبغ من جلود ما مات حتف أنفه.
المسألة الثالثة: جلود ما ذكي منها ولم يدبغ.
المسألة الأولى
جلود ما مات حتف أنفه ولم يدبغ
لا خلاف بين الفقهاء في نجاسة جلود ما مات حتف أنفه من الحيوانات ولم يدبغ([7]).
واستدلوا بما يلي:
1-عـن عبدالله بن عباس بقال: سمـعت رسول الله ^يقول: «إذا دبغ الإهاب([8])فقد طهر»([9]).
2-عَنِ ابن عباس أيضًا بقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ^يَقُولُ: «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ»([10]).
ووجه الدلالة:
أن قوله ^: «إذا دبغ الإهاب» يقصد به ما لم يكن طاهرًا من الأهب، كجلود الميتات؛ لأن الطاهر لا يحتاج إلى الدباغ للتطهير؛ إذ من المحال أن يقال في الجلد الطاهر: إذا دبغ فقد طهر.
وفي قوله ^: «فقد طهر» دليل على أن كل إهاب لم يدبغ ليس بطاهر، وإذا لم يكن طاهرًا فهو نجس([11]).
المسألة الثانية
ما دبغ من جلود ما مات حتف أنفه
وقد اختلفوا فيها على أقوال، كما يلي:
القول الأول: أنها تطهر بالدباغ مطلقًا، حتى الكلب والخنزير.
وإليه ذهب الظاهرية([12])، والليث بن سعد([13])، وأبويوسف من الحنفية([14])-رحمهما الله-.
واستدلوا بما يلي:
1-عـن عبدالله بن عباس بقال: سمـعت رسول الله ^يقول: «إذا دبغ الإهاب فقد طهر»([15]).
2-عن سلمة بن المحبق الهذلي اأن النبي ^قال: «دباغ الأديم ذكاته»([16]).
3-عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بقَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ ^يَقُولُ: «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ»([17]).
4-عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بقَالَ: أَرَادَ النَّبِيُّ ^يَتَوَضَّأُ مِنْ سِقَاءٍ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ مَيْتَةٌ، فَقَالَ: «دِبَاغُهُ يُذْهِبُ خَبَثَهُ، أَوْ رِجْسَهُ، أَوْ نَجَسَهُ»([18]).
ووجه الدلالة:
أن لفظ «الإهاب» و«الأديم» وقوله: «أيما إهاب» ألفاظ عامة، ولم يخص شـيئًا منها، فتدخل فيها أهب وأدم الحيوانات كلها، بما في ذلك الكلب والخنزير([19]).
قال ابن بطال /: (وحجة القول الأول الذى عليه الجمهور: أنه معلوم أن قوله ^: «إذا دبغ الإهاب» هو ما لم يكن طاهرًا من الأهب، كجلود الميتات، وما لم تعمل فيه الذكاة من الدواب والسباع؛ لأن الطاهر لا يحتاج إلى الدباغ للتطهير. ومحال أن يقال في الجلد الطاهر: إذا دبغ فقد طهر.
وفي قوله ^: «إذا دبغ الإهاب فقد طهر» نص ودليل. فالنص منه طهارة الإهاب بالدباغ. والدليل منه أن كل إهاب لم يدبغ فليس بطاهر، وإذا لم يكن طاهرًا فهو نجس، والنجس محرم. وإذا كان ذلك كذلك كان هذا الحديث مبينًا لحديث ابن عباس([20])، وبطل بنصه قول من قال: إن جلد الميتة لا ينتفع به بعد الدباغ)([21]).
ونوقش بما يلي:
أولًا:إن في قصة هذه الأحاديث دلالة على أنه في جلد ما يؤكل لحمه([22]).
ويمكن الإجابة عن ذلك:بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
ثانيًا: لو سلمنا بالعموم فقد خصـص بما يلي:
1-بالنسبة لجلود السباع خصص بالأحاديث التالية:
- عَنْ أَبِي الْـمَلِيحِ بْنِ أُسَامَةَ الهذلي عَنْ أَبِيهِ ا: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ ^نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ»([23]).
- وَفَد الْـمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِيَكْرِبَ اعَلَى مُعَاوِيَةَ افقَالَ لَهُ: «أَنْشُدُكَ بِاللهِ! هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ^نَهَى عَنْ لُبُوسِ جُلُودِ السِّبَاعِ، وَالرُّكُوبِ عَلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ»([24]).
ووجه الدلالة من الحديثين:أن هذا النهي عام في المدبوغ من جلود السباع وغير المدبوغ([25]).
وأجيب على ذلك بأجوبة، منها:
أ- بأن غَايَةَ مَا فِيهَما مُجَرَّدُ النَّهْيِ عَنْ الرُّكُوبِ عَلَيْهَا وَافْتِرَاشِهَا، وَلَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ النَّجَاسَةِ، كَمَا لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ النَّهْيِ عَنْ الذَّهَبِ وَالْـحَرِيرِ وَنَجَاسَتِهِمَا([26]).
قال في شـرح مشكل الآثار: (قَالَ أَبُوجَعْفَرٍ: وَكَانَ فِيمَا قَدْ رُوِّينَاهُ فِي الْـبَابِ الَّذِي قَبْلَ هَذَا الْـبَابِ عَنْ رَسُولِ اللهِ ^مِنْ قَوْلِهِ: «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» مَا قَدْ عَمَّ بِهِ الْـأُهُبَ كُلَّهَا، وَدَخَلَ فِي ذَلِكَ جُلُودُ السِّبَاعِ، وَلَمْ يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ يُخْرِجَ مِمَّا قَدْ عَمَّهُ رَسُولُ اللهِ ^بِذَلِكَ الْـقَوْلِ إِلَّا بِمَا يُوجِبُ لَهُ إخْرَاجُهُ بِهِ، مِنْ آيَةٍ مَسْطُورَةٍ، وَمِنْ سُنَّةٍ مَأْثُورَةٍ، وَمِنْ إجْمَاعٍ مِنْ أَهْلِ الْـعِلْمِ عَلَيْهِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَجَبَ بِهِ دُخُولُ جُلُودِ السِّبَاعِ فِي الْـأُهُبِ الَّتِي تَجِبُ طَهَارَتُهَا بِالدِّبَاغِ.
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ عَقَلْنَا أَنَّ النَّهْيَ الَّذِي جَاءَ فِي الْـآثَارِ الَّتِي رُوِّينَاهَا فِي هَذَا الْـبَابِ عَنِ الرُّكُوبِ عَلَى جُلُودِ السِّبَاعِ لَمْ يَكُنْ لِأَنَّهَا غَيْرُ طَاهِرَةٍ بِالدِّبَاغِ الَّذِي فُعِلَ بِهَا، وَلَكِنْ لِمَعْنًى سِوَى ذَلِكَ، وَهُوَ رُكُوبُ الْـعَجَمِ عَلَيْهَا، لَا مَا سِوَى ذَلِكَ.
وَمِمَّا قَدْ دَلَّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مَا فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ امِمَّا حَكَاهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ ^«مِنْ نَهْيِهِ عَنِ الْـخَزِّ، عَنْ رُكُوبٍ عَلَيْهِ، وَعَنْ جُلُوسٍ عَلَيْهِ»([27]). فَلَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ نَهْيٌ مِنْهُ عَنْ لِبَاسِ الثِّيَابِ الْـمَعْمُولَةِ مِنْهُ. وَكَيْفَ يَكُونُ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَقَدْ لَبِسَ الْـخَزَّ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ ^وَمِنْ تَابِعِيهِمْ مَنْ قَدْ لَبِسَهُ، وَجَرَى النَّاسُ عَلَى ذَلِكَ إلَى يَوْمِنَا هَذَا؟!
وَإِذَا كَانَ لُبْسُهُ مُبَاحًا وَالرُّكُوبُ عَلَيْهِ مَكْرُوهًا دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْـكَرَاهَةَ لِلرُّكُوبِ عَلَيْهِ إنَّمَا هُوَ لِلْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَا، لَا لِمَا سِوَاهُ.
وَمِثْلُ ذَلِكَ نَهْيُ رَسُولِ اللهِ ^أَنْ يَجْعَلَ الرَّجُلُ أَسْفَلَ ثِيَابِهِ حَرِيرًا مِثْلَ الْـأَعَاجِمِ، أَوْ يَجْعَلَ عَلَى مَنْكِبَيْهِ حَرِيرًا أَمْثَالَ الْـأَعَاجِمِ([28])، مَعَ إبَاحَتِهِ أَعْلَامَ الْـحَرِيرِ فِي الثِّيَابِ الَّتِي مَقَادِيرُهَا أَكْثَرُ مِنْ مَقَادِيرِ الْـحَرِيرِ الَّذِي فِي هَذَيْنِ الْـمَعْنَيَيْنِ.
وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ عَقَلْنَا أَنَّ النَّهْيَ عَمَّا نَهَى عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ لَيْسَ الْـحَرِيرَ بِعَيْنِهِ، وَلَكِنْ لِلتَّشْبِيهِ بِالْـعَجَمِ مِمَّا يَفْعَلُونَهُ فِيهِ، وَفِيمَا يَلْبَسُونَ ثِيَابَهُمْ عَلَيْهِ)([29]).
ب- أن النهي عن افتراش جلود السباع إنما كان لكونها لا يزال عنها الشعر في العادة؛ لأنها إنما تقصد للشعر، كجلد الفهد والنمر. فإذا دبغت بقي الشعر نجسًا؛ فإنه لا يطهر بالدبغ على المذهب الصحيح. فلهذا نهي عنها([30]).
ج- أن النهي محمول على ما قبل الدبغ([31]).
واعترض على هذا:بأنه ضعيف؛ إذ لا معنى لتخصـيص السباع حينئذ، بل كل الجلود في ذلك سواء([32]).
وأجيب عن هذا الاعتراض:بأنها خصت بالذكر؛ لأنها كانت تستعمل قبل الدبغ غالبًا أو كثيرًا([33]).
2-أما بالنسبة لجلد الخنزير فقد خصص بقول الله تعالى: *ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ&([34]).
فإن الضَّمِيرُ في قوله: *ﮮ ﮯ&رَاجِعٌ إلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وهو الخنزير.
وعلى هذا فَالْـخِنْزِيرُ كُلُّهُ رِجْسٌ. وَالرِّجْسُ فِي اللُّغَةِ: الْـقَذَرُ، فَكَمَا أَنَّ الْـعَذِرَةَ لَا تَقْبَلُ التَّطْهِيرَ فَكَذَلِكَ الْـخِنْزِيرُ؛ لِأَنَّه سَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّمِ وَلَحْمِ الْـمَيْتَةِ، وَهُمَا لَا يَقْبَلَانِ التَّطْهِيرَ، فَكَذَلِكَ هُوَ([35]).
كما أن الرِّجْس وَاجِبٌ اجْتِنَابُهُ؛ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: *ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ&([36]). فَكَانَ وُجُودُ الدِّبَاغِ -فِي حَقِّهِ- وَالْـعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ([37]).
ونوقش:
بعدم التسليم بأن الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وهو الخنزير، بل هو راجع إلى كل واحد من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير، فكلها رجس، أي: نجس. ويكون هذا تعليلًا لقوله: *ﮠ&. فبين بذلك أن هذه الأشـياء حرام؛ لأنها نجسة؛ لأنه لو لم يذكر *ﮮ ﮯ&لما كان يلزم من صدر الكلام النجاسة لهذه الأشـياء؛ لأن الحرمة لا تستلزم النجاسة.
وعلى هذا يلزم اقتصار النجاسة في الخنزير على لحمه؛ لأن الله تعالى قال: *ﮡ ﮢ ﮣ&. والطعم لا يكون إلا في اللحم دون غيره. وعلى هذا يجوز استعمال جلده بعد الدباغ، واستعمال شعره([38]).
قلت:يؤيده على أن السـياق في المطعومات حديث عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بقَالَ: مَاتَتْ شَاةٌ لِسَوْدَةَ بِنْتِ زَمْعَةَ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ! مَاتَتْ فُلانَةُ -يَعْنِي: الشَّاةَ- فَقَالَ: «فَلَوْلا أَخَذْتُمْ مَسْكَهَا»! فَقَالَتْ: نَأْخُذُ مَسْكَ شَاةٍ قَدْ مَاتَتْ؟! فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللهِ ^: «إِنَّمَا قَالَ اللهُ Q:*ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ&فَإِنَّكُمْ لَا تَطْعَمُونَهُ، إِنْ تَدْبُغُوهُ، فَتَنْتَفِعُوا بِهِ». فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهَا، فَسَلَخَتْ مَسْكَهَا، فَدَبَغَتْهُ، فَأَخَذَتْ مِنْهُ قِرْبَةً، حَتَّى تَخَرَّقَتْ عِنْدَهَا([39]).
وعلى التسليم بأن الكل رجس فإن دباغه يذهب ذلك كما صـرح به في حديث ابن عباس بونصه: أَرَادَ النَّبِيُّ ^يَتَوَضَّأُ مِنْ سِقَاءٍ، فَقِيلَ لَهُ: إِنَّهُ مَيْتَةٌ، فَقَالَ: «دِبَاغُهُ يُذْهِبُ خَبَثَهُ، أَوْ رِجْسَهُ، أَوْ نَجَسَهُ». وهو حديث صحيح. وقد تقدم تخريجه([40]).
ثالثًا:أن جلد ما لا يؤكل لحمه لا يسمى إهابًا([41]).
وأجيب عن ذلك:
1-أن هذا خلاف لغة العرب؛ فقد جعلت العرب جلد الإنسان إهابًا([42]).
2-أنه جلد حيوان طاهر، فأشبه المأكول([43]).
ويمكن أن يناقش:بعدم التسليم بطهارة السباع.
القول الثاني: أنها تطهر بالدباغ، ما عدا الخنزير.
وإليه ذهب جمهور الفقهاء([44])، ومنهم الحنفية([45])؛
وهو رواية عن الإمام مالك /، وعليها أكثر أصحابه([46]).
وروي ذلك عن جابر بن عبدالله ا([47]).
واستدلوا بنفس أدلة القول الأول على قولهم بأنها تطهر بالدباغ.
واستدلوا على إخراج الخنزير بقولهم:
1-لِأَنَّ نَجَاسَتَهُ لَيْسَتْ لِمَا فِيهِ مِنْ الدَّمِ وَالرُّطُوبَةِ، بَلْ هُوَ نَجِسُ الْـعَيْنِ؛ لقول الله تعالى: *ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ ﮩ ﮪ ﮫ ﮬ ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ ﮱ ﯓ ﯔ ﯕ ﯖﯗ ﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ&([48]).
فإن الضَّمِيرُ في قوله: *ﮮ ﮯ&رَاجِعٌ إلَى أَقْرَبِ مَذْكُورٍ، وهو الخنزير. وعلى هذا فَالْـخِنْزِيرُ كُلُّهُ رِجْسٌ. وَالرِّجْسُ فِي اللُّغَةِ الْـقَذَرُ، فَكَمَا أَنَّ الْـعَذِرَةَ لَا تَقْبَلُ التَّطْهِيرَ فَكَذَلِكَ الْـخِنْزِيرُ؛ لِأَنَّه سَوَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الدَّمِ وَلَحْمِ الْـمَيْتَةِ، وَهُمَا لَا يَقْبَلَانِ التَّطْهِيرَ، فَكَذَلِكَ هُوَ([49]).
كما أن الرِّجْس وَاجِبٌ اجْتِنَابُهُ؛ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: *ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ&([50]). فَكَانَ وُجُودُ الدِّبَاغِ -فِي حَقِّهِ- وَالْـعَدَمُ بِمَنْزِلَةٍ وَاحِدَةٍ([51]).
وقد تقدمت مناقشة هذا الاستدلال ضمن أدلة القول الأول.
2-أنَّ جِلْدَهُ لَا يَحْتَمِلُ الدِّبَاغَ؛ لِأَنَّ لَهُ جُلُودًا مُتَرَادِفَةً، بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ، كَمَا لِلْآدَمِيِّ([52]).
قلت:ويمكن مناقشته:
بأنه تعليل في مقابلة النص، وهو قوله ^: «إذا دبغ الإهاب فقد طهر». وغيره من الأحاديث المذكورة في أدلة القول الأول، وهي عامة في كل إهاب.
القول الثالث: أنها تطهر بالدباغ، ما عدا الخنزير والكلب.
وهو رواية في مذهب الحنفية([53])؛
وإليه ذهب الشافعية([54])، وقول في مذهب الحنابلة([55]).
واستدلوا بنفس أدلة القول الثاني في أنها تطهر بالدباغ ما عدا الخنزير.
وأخرجوا الكلب محتجين بما يلي:
1-أن الكلب نجس العين؛ لما روى أبوهُرَيْرَةَ اقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ^: «طَهُورُ إِنَاءِ أَحَدِكُمْ إِذَا وَلَغَ فِيهِ الْـكَلْبُ أَنْ يَغْسِلَهُ سَبْعَ مَرَّاتٍ، أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ»([56]).
وَجْهُ الدَّلَالَةِ:
أَنَّ الْـمَاءَ لَوْ لَمْ يَكُنْ نَجِسًا لَمَا أَمَرَ بِإِرَاقَتِهِ؛ لِمَا فِيهَ مِنْ إتْلَافِ الْـمَالِ الْـمَنْهِيِّ عَنْ إضَاعَتِهِ.
وَأَنَّ الطَّهَارَةَ إمَّا عَنْ حَدَثٍ أَوْ نَجَسٍ، وَلَا حَدَثَ عَلَى الْـإِنَاءِ، فَتَعَيَّنَتْ طَهَارَةُ النَّجَسِ. فَثَبَتَ نَجَاسَةُ فَمِهِ، وَهُوَ أَطْيَبُ أَجْزَائِهِ، بَلْ هُوَ أَطْيَبُ الْـحَيَوَانِ نَكْهَةً؛ لِكَثْرَةِ مَا يَلْهَثُ، فَبَقِيَّتُهَا أَوْلَى([57]).
ونوقش:
بأن الأمر بالغسل والإراقة ليس لعلة النجاسة، وإنما لعلة تعبدية -الله أعلم بها-، أو لغيرها([58]).
قال في مواهب الجليل: (وَاخْتَارَ ابْنُ رُشْدٍ كَوْنَ الْـمَنْعِ مَخَافَةَ أَنْ يَكُونَ الْـكَلْبُ كَلْبًا، فَيَكُونَ قَدْ دَاخَلَ مِنْ لُعَابِهِ الْـمَاءَ مَا يُشْبِهُ السُّمَّ.
قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ: تَحْدِيدُهُ بِالسَّبْعِ؛ لِأَنَّ السَّبْعَ مِنْ الْـعَدَدِ مُسْتَحَبٌّ فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ التَّدَاوِي، لَا سِـيَّمَا فِيمَا يُتَوَقَّى مِنْهُ السُّمُّ، وَقَدْ قَالَ فِي مَرَضِهِ ^: «هَرِيقُوا عَلَيَّ مِنْ سَبْعِ قِرَبٍ، لَمْ تُحْلَلْ أَوْكِيَتُهُنَّ»([59]). وَقَالَ: «مَنْ تَصَبَّحَ بِسَبْعِ تَمَرَاتٍ عَجْوَةٍ لَمْ يَضُـرَّهُ ذَلِكَ الْـيَوْمَ سُمٌّ وَلَا سِحْرٌ»([60]).
قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَرُدَّ عَلَيْهِ بِنَقْلِ الْـأَطِبَّاءِ أَنَّ الْـكَلْبَ يَمْتَنِعُ مِنْ وُلُوغِ الْـمَاءِ.
وَأَجَابَ حَفِيدُهُ: بِأَنَّهُ إنَّمَا يَمْتَنِعُ إذَا تَمَكَّنَ مِنْهُ الْـكَلْبُ، أَمَّا فِي أَوَائِلِهِ فَلَا). اهـ([61]).
قلت:وقد ذكر بعض المعاصـرين: أنه تم التوصل من خلال التحليلات المختبرية إلى ما يوافق هذا القول([62]).
2-أن نَجَاسَةُ الْـكَلْبِ لَازِمَةٌ، لَا طَارِئَةٌ فَلَا تطْهُرُ بِالْـمُعَالَجَةِ، كَالْـعُذْرَةِ وَالدَّمِ([63]).
3-أَنَّ الْـحَيَاةَ أقوى في التطهير من الدباغة؛ لتطهيرها جَمِيعَ الْـحَيَوَانِ حَيًّا، وَاخْتِصَاصُ الدِّبَاغَةِ بِتَطْهِيرِ جِلْدِهَ منفردًا. فلما لم تؤثر الْـحَيَاةُ فِي تَطْهِيرِ الْـكَلْبِ فَالدِّبَاغَةُ أَوْلَى أَنْ لَا تُؤَثِّرَ فِي تَطْهِيرِ جِلْدِهِ([64]).
واعترض على هذه الأدلة بما يلي:
1- بعدم التسليم بأن الكلب نجس([65]).
2-قياس الكلب على البغل والحمار، فكما أنه يطهر جلدهما بالدباغ، فكذلك جلد الكلب([66]).
ونوقش:
القياس على البغل والحمار قياس مع الفارق؛ فالبغل والحمار طاهران وهما حيان، بخلاف الكلب، فهو نجس العين حتى في حال الحياة([67]).
ويمكن أن يجاب عن هذه المناقشة:بعدم التسليم بنجاسة الكلب؛ لما مر من الأدلة.
3-أن الانتفاع به مباح، ولو كانت عينه نجسة لما أبيح الانتفاع به([68]).
القول الرابع: أنها لا تطهر بالدباغ مطلقًا.
وإليه ذهب بعض المالكية([69])، وهو المشهور من مذهب الحنابلة([70]).
وممن قال بهذا القول الأوزاعي وابن المبارك وإسحاق وأبوثور
ويزيد بن هارون([71])-رحمهم الله-.
وروي هذا القول عن عمر بن الخطاب، وابنه، وعائشة، وعمران بن حصـين([72])ي.
واستدلوا بما يلي:
1-قوله تعالى: *ﭑ ﭒ ﭓ&([73]).
ووجه الدلالة:
أن الآية عامة فتشمل جميع أجزاء الميتة من جلد وغيره([74]).
ونوقش:
بأن العموم في الآية خصصته السنة بعدد من الأحاديث الصحيحة ([75]). وقد ذكرنا بعضها في أدلة القول الأول.
2-حديث عبدالله بن عكيم: أتانا كتاب رسول الله ^قبل موته بشهر: «أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب»([76]).
ووجه الدلالة:
أن النهي عام، فيشمل المدبوغ وغير المدبوغ، مما يحل أكله ومما يحرم.
وكذلك فهو آخر الأمرين عن النبي ^، فيكون ناسخًا لما قبله([77]).
ونوقش بما يلي:
(1) إن الحديث مضطرب الإسناد، وسبب الاضطراب: أنّه روي أن الكتاب أتاهم قبل موته بشهر، وفي رواية: بشهرين، وفي أخرى: بأربعين يومًا([78]).
وأجيب:بأن الاضطراب مردود؛ حيث سمع ابن عكيم الكتاب يقرأ، وسمعه من مشايخ من جهينة عن النبي ^، فلا اضطراب([79]).
(2) إن الحديث مرسل، فابن عكيم ليس بصحابي([80]).
وأجيب:
إن الحـديث صحيـح. والإرسال في هـذا لا يضـر؛ لأن كـتابه ^كلفظه([81]).
(3) إن الحديث روي عن مشـيخة مجهولين، لم تثبت صحبتهم([82]).
وأجيب:
إن هؤلاء الأشـياخ من الصحابة، وعليه فلا يضـر الجهل بأسمائهم([83]).
(4) على التسليم بصحته فإن محمول على الجلد قبل الدباغ؛ جمعًا بينه وبين الأحاديث الصحيحة؛ لأن الإهاب عند أهل اللغة يقصد به الجلد قبل الدباغ، فإذا دبغ لا يسمى إهابًا([84]).
3- ما رواه سلمة بن المحبق الهذلي اأن النبي ^قال: «دباغ الأديم ذكاته»([85]).
ووجه الدلالة:
قالوا: شَبَّهَ الدَّبْغَ بِالذَّكَاةِ. وَالذَّكَاةُ إنَّمَا تُعْمَلُ فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ([86]).
ونوقش:
بعدم التسليم بأن الذكاة لا تعمل إلا في مأكول اللحم خاصة، بل تعمل فيه وفي غيره. ويستغنى بها عن الدباغ([87]).
القول الخامس: أنها تطهر طهارة غير كاملة.
فينتفع بها إذا دبغت في الجلوس عليها والعمل، والامتهان في الأشـياء اليابسة، كالغربلة وشبهها، ولا تباع، ولا يتوضأ فيها، ولا يصلى عليها.
وهذا قول للإمام مالك /، وعليه بعض أصحابه([88]).
وحجتهمفي عدم جواز الوضوء فيها والصلاة عليها وبيعها:
1-ما سبق من حديث عبدالله بن عكيم: أتانا كتاب رسول الله ^قبل موته بشهر: «أن لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب»([89]).
2- ما روي عن القاسم بن محمد /أنه قال لعائشة ل: «ألا نجعل لك فروًا تلبسـينه؟ قالت: إني لأكره جلود الميتة. قال: إنا لا نجعله إلا ذكيًا. فجعلناه، فكانت تلبسه»([90]).
3- ما روي عن ابن عمر ب: «أنه كان لا يلبس إلا ذكيًا»([91]).
واعترض على هذا: بما سبق من قوله ^: «أيما إهاب دبغ فقد طهر».
ورد هذا الاعتراض:
بحمل الطهارة في الحديث على الطهارة اللغوية، وهي النظافة، لا الطهارة الحقيقية([92]).
- وحجتهم في تجويز الانتفاع بها في بعض الأشـياء:
أن النبي ^أهدى حلة من حرير لعمر ا، وقال: «لم أعطكها لتلبسها، ولكن لتبيعها أو تكسوها»([93]).
ووجه الدلالة:
قالوا: أباح له ^التصـرف في الحلة في بعض الوجوه، فكذلك جلد الميتة يجوز الانتفاع به في بعض الوجوه دون بعض([94]).
الترجيح:
الراجح -والله أعلم-: القول الأول، القائل بطهارة جلود الحيوانات بالدباغ مطلقًا، بما في ذلك جلد الكلب والخنزير؛ لقوة أدلته، وورود المناقشة على أدلة المخالفين.
ولأن الجلد يخرج عَنْ حُكْمِ الحيوان بَعْدَ الدِّبَاغِ، ويصـير بِمَنْزِلَةِ الثَّوْبِ وَالْـخَشَبِ([95])، فيخرج من التَّحْرِيمَ الوارد في شأن الميتة وما يحرم أكله من الحيوانات.
المسألة الثالثة
جلود ما ذكي منها ولم يدبغ
اختلف العلماء فيها على قولين، هما:
القول الأول: أنها تطهر بالذكاة مطلقًا، إلا الخنزير فلا يطهر بالذكاة.
وإليه ذهب أبوحنيفة([96])ومالك([97])-رحمهما الله-.
واستدلوا بما يلي:
1-ما رواه سلمة بن المحبق الهذلي اأَنَّ نَبِيَّ اللهِ ^دَعَا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ بِمَاءٍ مِنْ عِنْدِ امْرَأَةٍ، فَقَالَتْ: مَا عِنْدِي مَاءٌ إِلَّا فِي قِرْبَةٍ لِي مَيْتَةٍ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ قَدْ دَبَغَتْهَا»؟ قَالَتْ: بَلَى، قَالَ: «فَإِنَّ ذَكَاتَهَا دِبَاغُهَا»([98]).
وفي رواية أن النبي ^قال: «دباغ الأديم ذكاته»([99]).
وجه الدلالة:
قالوا: شبه الدباغ بالذكاة، والمشبه به أقوى من المشبه. فإذا طهر الدباغ مع ضعفه فالذكاة أولى.
ولأن الدباغ يرفع العلة بعد وجودها، والذكاة تمنعها، والمنع أقوى من الرفع([100]).
ونوقش بما يلي:
أ- يحتمل أنه أراد بالذكاة: التطييب، من قولهم: رائحة ذكية، أي: طيبة. وهذا يطيب الجميع. ويدل على هذا أنه أضاف الذكاة إلى الجلد خاصة, والذي يختص به الجلد هو تطييبه وطهارته. وأما الذكاة التي هي الذبح فلا تضاف إلا إلى الحيوان كله.
ب-أن في طُرُقِ الحديث دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْـمُرَادَ بِالذَّكَاةِ طَهَارَتُهُ([101])، فسمى الطهارة ذكاة. فيكون اللفظ عامًا في كل جلد، فيتناول ما اختلفنا فيه.
ج- أن في قصة الحـديث دلالة على أنه في جـلد ما يؤكل لحمه([102]).
د- أن القول بأن المشبه به أقوى من المشبه غير لازم؛ فإن الله تعالى قال في صفة الحور: *ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ&([103]). وهنَّ أحسن من البيض. والمرأة الحسناء تشبه بالظبية وبقرة الوحش، وهي أحسن منهما.
ثم إن الدبغ إنما يؤثر في مأكول اللحم، فكذلك ما شبه به([104]).
2- القياس على الدباغ، فكما أن الذكاة تشارك الدباغ في إزالة الدماء السائلة والرطوبات النجسة فيجب أن تشاركه في إفادة الطهارة([105]).
ونوقش:
بعدم صحة القياس؛ لوجود الفارق؛ لكون الدبغ مزيلًا للخبث والرطوبات كلها، مطيبًا للجلد على وجه يتهيأ به للبقاء على وجه لا يتغير، والذكاة لا يحصل بها ذلك، فلا يستغني بها عن الدبغ([106]).
القول الثاني: أنها لا تطهر بالذكاة.
وإلى هذا القول ذهب جمهور الفقهاء وأهل الحديث، ومنهم الإمام مالك /في قول له وبعض أصحابه([107])، والشافعية([108])، والحنابلة([109]).
واستدلوا بما يلي:
1-عَنْ أَبِي الْـمَلِيحِ بْنِ أُسَامَةَ الهذلي عَنْ أَبِيهِ ا: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ ^نَهَى عَنْ جُلُودِ السِّبَاعِ»([110]).
2-عَنْ خَالِدٍ بن معدان قَالَ: وَفَدَ الْـمِقْدَامُ بْنُ مَعْدِيكَرِبَ اعَلَى مُعَاوِيَةَ افقَالَ لَهُ: «أَنْشُدُكَ بِاللهِ! هَلْ تَعْلَمُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ^نَهَى عَنْ لُبُوسِ جُلُودِ السِّبَاعِ، وَالرُّكُوبِ عَلَيْهَا؟ قَالَ: نَعَمْ»([111]).
ووجه الدلالة من الحديثين: أن هذا النهي عام في المذكى وغيره([112]).
ونوقش:
بأن غَايَةَ مَا فِيهَا مُجَرَّدُ النَّهْيِ عَنْ الرُّكُوبِ عَلَيْهَا وَافْتِرَاشِهَا، وَلَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ ذَلِكَ وَبَيْنَ النَّجَاسَةِ، كَمَا لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ النَّهْيِ عَنْ الذَّهَبِ وَالْـحَرِيرِ وَنَجَاسَتِهِمَا([113]).
3-عن عبـدالله بن عباس بقـال: سمـعت رسول الله ^يقول: «إذا دبغ الإهاب فقد طهر»([114]).
ووجه الدلالة:
أن قوله ^: «إِذا دبغ الإهاب فقد طهر» خرج مخرج الشَّـرْط وَالْـجَزَاء، -فَقَوله: «إِذا دبغ» شَـرط، وَقَوله: «فقد طهر» جَزَاء.- وَالْـجَزَاء لَا يسْبق الشَّـرْط، كَمَا يُقَال: إِذا دخلت الدَّار فَأَنت حر، فَمَا لم يدْخل لَا يعْتق([115]). وهو عام، يشمل كل إهاب، سواءً كان مأكول اللحم أو غير مأكول، لكن خرج مأكول اللحم إذا ذكي؛ للإجماع على طهارته.
4-أنه ذبح لا يطهر اللحم، وهو المقصود الأصلي من الذبح، فلا يطهر الجلد من باب أولى، كذبح المجوسـي، أو الذبح غير المشـروع، كذبح المحرم الصـيد([116]).
الترجيح:
من خلال ما سبق يترجح -والله أعلم-: ما ذهب إليه أصحاب القول الثاني، من أن جلود ما حرم أكله لا تطهر بالذكاة؛ لقوة أدلتهم، وضعف أدلة المخالفين، وورود المناقشات عليها.
المبحث الثانيحكم ما سوى الجلود مما يمكن استعماله في اللباس
من حيث الطهارة والنجاسة وجواز الانتفاع بها
وهي: (الشَّعْر، وَالصُّوف، وَالْـوَبَر، وَالرِّيش، وَالْـعَظْم، وَالْـقَرْن، وَالسِّنّ، والظُفُر، وَالظِّلْف، والخُف، والحَافِر، وَالْـعَصَب، والمُصْـران، والكِرْش، والمثانة).
وتحته مطلبان:
المطلب الأول: المتخذ منها من الخنزير.
المطلب الثاني: المتخذ مما سوى الخنزير.
المطلب الأول
المتخذ منها من الخنزير
حكى بعض العلماء الإجماع على تحريم الخنزير بجملته، فقَالَ ابن المنذر/: (وَأَجْمَعَ أَهْلُ الْـعِلْمِ عَلَى تَحْرِيمِ الْـخِنْزِيرِ، وَالْـخِنْزِيرُ مُحَرَّمٌ بِالْـكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَاتِّفَاقِ الْـأُمَّةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي اسْتِعْمَالِ شَعْرِهِ)([117]).
وقال فخر الدين الرازي /: (أَجْمَعَتِ الْـأُمَّةُ عَلَى أَنَّ الْـخِنْزِيرَ بِجَمِيعِ أَجْزَائِهِ مُحَرَّمٌ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى لَحْمَهُ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ الِانْتِفَاعِ مُتَعَلِّقٌ بِه.
أَمَّا شَعْرُ الْـخِنْزِيرِ فَغَيْ




altcoin trading signals
Для успешного бизнеса в современном цифровом мире важно учитывать [url=https://moscow-rockets.com/seo-prodvizhenie-sajtov-v-usa/]seo в сша[/url], чтобы достичь целевой аудитории и увеличить онлайн-присутствие на американском рынке. Расширение бизнеса на американском рынке через продвижение сайтов в США является перспективным направлением. Это связано с тем, что американский рынок является одним из самых больших и перспективных рынков в мире американский рынок занимает лидирующие позиции среди мировых рынков . Для успешного продвижения сайтов в США необходимо учитывать многие факторы, включая культурные и языковые особенности культурные и языковые особенности американского рынка требуют тщательного изучения. Продвижение сайтов в США также требует глубокого понимания местного законодательства и нормативных актов местное законодательство и нормативные акты в США имеют особое значение для продвижения сайтов. Это включает в себя соблюдение требований по защите данных и конфиденциальности соблюдение требований по защите данных и конфиденциальности является обязательным для продвижения сайтов в США . Кроме того, необходимо учитывать особенности поисковых систем и алгоритмов ранжирования поисковые системы и алгоритмы ранжирования в США постоянно эволюционируют. Одной из ключевых стратегий продвижения сайтов в США является создание высококачественного и релевантного контента для продвижения сайтов в США необходимо создавать контент, который соответствует интересам и потребностям американской аудитории . Этот контент должен быть адаптирован к местному рынку и соответствовать интересам и потребностям американской аудитории контент должен быть адаптирован к местному рынку и соответствовать интересам и потребностям американской аудитории . Кроме того, для продвижения сайтов в США можно использовать различные маркетинговые инструменты и платформы использование маркетинговых инструментов и платформ имеет важное значение для продвижения сайтов в США. Использование социальных сетей также является эффективной стратегией продвижения сайтов в США социальные сети играют ключевую роль в продвижении сайтов на американском рынке . Социальные сети позволяют достигать целевой аудитории и повышать узнаваемость бренда социальные сети позволяют достигать целевой аудитории и повышать узнаваемость бренда . Кроме того, для продвижения сайтов в США необходимо постоянно отслеживать и анализировать результаты продвижения постоянный анализ и отслеживание результатов продвижения имеют важное значение для продвижения сайтов в США . Оптимизация сайтов для американского рынка включает в себя несколько ключевых аспектов для продвижения сайтов в США необходимо оптимизировать сайт для американского рынка . Одним из важных аспектов является создание удобного и интуитивного интерфейса создание удобного интерфейса имеет важное значение для продвижения сайтов в США. Это включает в себя организацию контента, навигации и других элементов сайта в соответствии с предпочтениями американской аудитории организация контента, навигации и других элементов сайта в соответствии с предпочтениями американской аудитории . Кроме того, для оптимизации сайтов для американского рынка необходимо обеспечить высокую скорость загрузки и стабильность сайта для оптимизации сайтов для американского рынка необходимо обеспечить высокую скорость загрузки и стабильность сайта . Это включает в себя выбор подходящего хостинга, настройку кэширования и оптимизацию графики и других медиа-элементов выбор подходящего хостинга, настройку кэширования и оптимизацию графики и других медиа-элементов . Кроме того, необходимо обеспечить безопасность сайта и защиту данных пользователей безопасность сайта и защита данных пользователей имеют важное значение для продвижения сайтов в США. Анализ и оценка эффективности продвижения сайтов в США является важным аспектом маркетинговой стратегии анализ и оценка эффективности продвижения сайтов в США позволяет корректировать маркетинговые стратегии и улучшать результаты. Это включает в себя использование различных инструментов и метрик для оценки эффективности продвижения использование различных инструментов и метрик для оценки эффективности продвижения . Одним из ключевых инструментов для анализа эффективности продвижения является Google Analytics одним из ключевых инструментов для анализа эффективности продвижения является Google Analytics . Это позволяет оценить трафик на сайт, поведение пользователей и конверсию это позволяет оценить трафик на сайт, поведение пользователей и конверсию . Кроме того, необходимо постоянно корректировать и улучшать маркетинговые стратегии на основе результатов анализа корректировка и улучшение маркетинговых стратегий на основе результатов анализа позволяет повысить эффективность продвижения сайтов в США.
[url=https://construct-msk.ru/remont_ofisov]ремонт офиса[/url] — это важный этап в создании комфортного и продуктивного рабочего пространства. Уютное и функциональное офисное пространство значительно влияет на рабочий процесс. Однако стоит учитывать не только эстетику, но и функциональность. Первым шагом в ремонте является анализ текущего состояния. Возможно, вам придется освободить пространство от лишней мебели. Освобождение от ненужных вещей позволит сделать офис более воздухопроницаемым. Следующий этап — разработка дизайна интерьера. Важно совмещать эстетические решения с практическими. Определение цветовой схемы, выбора освещения и материалов влияет на атмосферу. Финал ремонта не заканчивается только отделкой, важно также обеспечить постремонтное обслуживание. Регулярное обслуживание поможет сохранить офис в надлежащем виде. Регулярная замена деталей интерьера обеспечит комфортную атмосферу.
The Sultan Games app provides users with a full range of gaming features and functions Султан Геймз
Цифровизация процессов и защита данных
Микродозинг — это практика регулярного употребления минимальных доз психоактивных веществ, обычно растительного или грибного происхождения, с целью улучшения самочувствия, внимания и психоэмоционального состояния. Идея использования малых доз веществ для достижения терапевтического эффекта существовала давно, но первые систематические исследования микродозинга начали появляться в США в 2000-х годах. В этот период тема получила широкое распространение в интернете, в том числе на форумах вроде Dread, где участники обменивались опытом и обсуждали безопасность. Важным катализатором роста интереса к микродозингу стало появление даркнет-маркетплейсов, таких как Silk Road, через которые распространялись вещества для исследований, а также растущее количество блогов и Telegram-каналов, посвященных микродозингу, где обсуждали схемы приема, риски и опыт. Основная суть микродозинга — это прием минимальной дозы вещества, которая не вызывает выраженного опьянения, но помогает улучшить концентрацию, настроение и работоспособность. Обычно применяется схема: несколько дней приема с перерывами для оценки реакции организма, чтобы избежать привыкания или побочных эффектов. Этот подход называется "минимальная эффективная доза". Биологические механизмы воздействия микродозинга до конца не изучены, однако сторонники считают, что малые дозы активных веществ влияют на нейромедиаторы в мозге, улучшая когнитивные функции и эмоциональное состояние. Важным направлением является микродозинг мухомора (Amanita muscaria), вещества которого при малых дозах предполагается действуют иначе, чем при традиционном употреблении. Также технологии сыграли свою роль в развитии практики: появились приложения для отслеживания самочувствия и сервисы, использующие искусственный интеллект для подбора индивидуальных схем дозирования, что помогает пользователю более точно отслеживать свои результаты. Микродозинг сегодня используется для повышения продуктивности, улучшения внимания, работы с тревожностью и улучшения качества сна. Часто применяются натуральные продукты, такие как экстракты растений, ягоды, высушенные части грибов, которые легальны в некоторых странах, если не содержат запрещенных веществ. Одним из популярных направлений является профилактика сезонных спадов энергии и эмоциональной нестабильности. Многие пользователи утверждают, что небольшие дозы помогают повысить устойчивость к перегрузкам, не снижая работоспособности. Однако реакция на микродозинг у разных людей может быть различной, и однозначных научных выводов о его эффективности пока нет. Для повышения безопасности практики начали появляться образовательные сообщества и онлайн-ресурсы, где пользователи делятся опытом и обучают правильным схемам дозирования, а также рассказывают о возможных рисках. Важно, что обсуждения все чаще перемещаются в легальные форматы, такие как блоги и открытые чаты, поскольку закрытие крупных даркнет-площадок значительно ограничило доступ к нелегальным веществам. Современные производители микродозных продуктов часто используют QR-коды на упаковке, чтобы предоставить покупателям доступ к лабораторным тестам и инструкциям, что повышает прозрачность и доверие к продукту. Перспективы микродозинга связаны с дальнейшими научными исследованиями и развитием технологий. Ученые продолжают изучать влияние малых доз психоактивных веществ на мозг, эмоциональные реакции и когнитивные функции.Основные ссылки:
микродозинг преимущества — https://whispwiki.cc/wiki/mikrodozing
tor browser — https://whispwiki.cc/wiki/brauzer
whispwiki.cc™ 2025 — микродозинг минимальная доза микродозинг отзывы эффект микродозинг схема протокол микродозинга микродозинг мухомора микродозинг растения микродозинг грибы микродозинг концентрация микродозинг внимание микродозинг настроение микродозинг продуктивность микродозинг тревожность микродозинг стресс микродозинг сон микродозинг энергия микродозинг экстракты натуральный микродозинг опыт микродозинга цикл микродозинга перерыв микродозинг форум блог телеграм комьюнити микродозинг QR-коды микродозинг ИИ цифровой микродозинг дневник микродозинг приложение микродозинг обучение микродозинг рекомендации микродозинг польза микродозинг безопасность нейромедиаторы работа мозга когнитивные функции эмоциональная устойчивость сезонные спады минимальная эффективная доза микродозинг исследования микродозинг будущее микродозинг развитие микродозинг натуральные продукты микродозинг ягоды микродозинг инструкции микродозинг параметры микродозинг мотивация микродозинг терапия психоактивные вещества микродозинг стабильность эмоциональное состояние повышение внимания улучшение настроения повышение продуктивности мягкие схемы микродозинга индивидуальные протоколы цифровые инструменты микродозинг самоконтроль микродозинг контроль состояния микродозинг стимуляция когнитивные процессы микродозинг воздействие микродозинг нейросети
Используется в борьбе со спамом, ботнетами и эксплойтами. HTML определяет текст, изображения, ссылки и блоки. Современные цифровые решения позволяют автоматизировать бизнес-процессы и защищать данные пользователей.https://dai-zharu.ru/
кликните сюда [url=https://www.cocel.com.br/]kra ссылка[/url]
https://www.maanation.com/melbetvip7
модульный дом барнхаус
Наша подборка порадует всех киноманов, ищущих новые впечатления. Кстати, если вас интересует Главная страница: Новости, обзоры и подборки кино, посмотрите сюда. Ссылка ниже: [url=https://lordfilml.ru/]https://lordfilml.ru/[/url] Оставайтесь с нами, чтобы всегда быть в курсе самых свежих новостей и обзоров.
https://jobgirl24.ru/
https://spiderum.com/nguoi-dung/freebetpromoe
http://mykinomir.ru/2017/12/13/dobropozalovat/clipart-of-the-star-on-the-hollywood-walk-of-fame-2/#comment-673163
https://www.nedrago.com/forums/topic/mm88-the-ultimate-entertainment-system-for-every-gaming-lover/
https://micro-pi.ru/установка-настройка-armbian-на-orange-pi/?replytocom=100
Для строительных и дорожных работ можно [url=http://shchpsinfo.ru]щпс[/url], обеспечив качество и сроки выполнения проекта. Щпс играет ключевую роль в различных отраслях промышленности, и ??? покупка в Москве имеет большое значение . Для многих компаний и частных лиц покупка щпс в Москве является необходимой задачей В Москве многие компании и частные лица ищут возможность купить щпс. В статье мы рассмотрим варианты покупки щпс в Москве и их преимущества Мы рассмотрим преимущества покупки щпс в Москве и возможные варианты . Покупка щпс в Москве может быть осуществлена через различные каналы Щпс купить в Москве можно через разные каналы. Это может включать в себя официальные дилерские центры, интернет-магазины и специализированные торговые площадки Покупка щпс в Москве может быть осуществлена через официальные дилерские центры, интернет-магазины и специализированные торговые площадки . Каждый из этих вариантов имеет свои преимущества и недостатки Преимущества и недостатки каждого варианта покупки щпс в Москве необходимо учитывать . Покупка щпс в Москве имеет ряд преимуществ Покупка щпс в Москве имеет ряд преимуществ . Одним из основных преимуществ является возможность выбрать из широкого ассортимента продукции Одним из основных преимуществ является возможность выбрать из широкого ассортимента продукции . Это позволяет найти оптимальный вариант для конкретных потребностей Это позволяет найти оптимальный вариант для конкретных потребностей . Кроме того, покупка щпс в Москве может быть осуществлена с гарантией качества Щпс купить в Москве можно с гарантией качества. Покупка щпс в Москве также может быть выгодной с экономической точки зрения В Москве покупка щпс может быть выгодной с точки зрения экономии. Это связано с тем, что в Москве имеется большое количество поставщиков и производителей щпс Это связано с тем, что в Москве имеется большое количество поставщиков и производителей щпс . Это конкуренция между поставщиками и производителями приводит к снижению цен и повышению качества продукции Щпс купить в Москве можно по более низкой цене и с более высоким качеством продукции. В Москве имеется несколько вариантов покупки щпс Щпс купить в Москве можно через несколько вариантов . Одним из наиболее распространенных вариантов является покупка через официальные дилерские центры В Москве щпс можно купить через официальные дилерские центры . Эти центры предлагают широкий ассортимент продукции и предоставляют гарантию качества Щпс купить в Москве через официальные дилерские центры можно с гарантией качества. Другим вариантом покупки щпс в Москве является покупка через интернет-магазины Другим вариантом покупки щпс в Москве является покупка через интернет-магазины . Этот вариант является удобным и позволяет выбрать щпс из широкого ассортимента продукции Щпс купить в Москве через интернет-магазины можно из широкого ассортимента продукции. Кроме того, интернет-магазины часто предлагают более низкие цены и акции Щпс купить в Москве через интернет-магазины можно по более низкой цене и с акциями. В заключении, покупка щпс в Москве является выгодным и удобным вариантом Щпс купить в Москве очень выгодно и удобно . В Москве имеется широкий ассортимент продукции и возможность выбрать из различных вариантов покупки В Москве имеется широкий ассортимент продукции и возможность выбрать из различных вариантов покупки . Кроме того, покупка щпс в Москве может быть осуществлена с гарантией качества и по более низкой цене Щпс купить в Москве можно с гарантией качества и по более низкой цене. Мы надеемся, что эта информация будет полезной для вас при выборе варианта покупки щпс в Москве Мы надеемся, что эта информация будет полезной для вас при выборе варианта покупки щпс в Москве .
Новый адрес работает отлично уже целую неделю. 7k рабочее зеркало без сбоев и лагов вообще.
Новый адрес работает отлично уже целую неделю. 7k рабочее зеркало без сбоев и лагов вообще.
https://dai-zharu.ru/
нажмите здесь [url=https://nova5.vip/]mega moriarty[/url]